منذ البداية توضيح لا بد منه: هناك في تاريخ الشعر الروسي في القرن العشرين شاعرتان كبيرتان تحملان اسم أحمد، لكن أياً منهما ليست مسلمة كما يعتقد كثر. ولا تعرف أية منهما شيئاً عن الدين الإسلامي. كل ما في الأمر أن آنا أحمدوفا، وكما ستفعل بيلا أحمدولينا (1937-2010)، أخذت اسمها العائلي من جدة بعيدة لها من أصول ترترية. ولئن كانت أحمدولينا أكثر معاصرة من أحمدوفا إلى درجة أن جوزف برودسكي كان يعتبرها أكبر شاعرة روسية في القرن العشرين، فإن آنا أحمدوفا التي هي موضوعنا هنا، تبدو أكثر رسوخاً وحضوراً ليس فقط في الحياة الإبداعية الروسية، بل كذلك في النضال السياسي إلى درجة أن سيّء الذكر جدانوف ذكرها بالاسم في مجرى تقريره الشهير الذي شجب شعرها المنحطّ، ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية وأثارت حماسة الشعب الروسي بقصائدها حول صمود لينينغراد، لتحاول أن تعود إلى كتابة الشعر القانط المعلن صراحة غضبه على مصائر بلادها وأهل تلك البلاد على أيدي السلطات الستالينية. ولعل الذروة في ذلك الشعر مجموعتها الشهيرة «قداس جنائزي» التي سببت لها الكثير من القمع والأذى، لكنها لم تؤد بها أبداً إلى سلوك دروب المنفى. > وبصدد «قداس جنائزي» قد يكون ذا دلالة هنا أن نتخيّل مشهد ولادته: مجموعة كبيرة من نساء قانطات مرعوبات يتزاحمن واقفات عند مدخل سجن أودع فيه أبناؤهن وأزواجهن انطلاقاً من تهم سياسية- كانت الستالينية تعتبرها في ذلك الحين تهماً جنائية لا أكثر!-. فجأة، وكما تروي أحمدوفا في مقدمة ديوانها وكانت هي تقف في الطابور محاولة تقصّي حال ابنها المودع في السجن، تخرج من الصف امرأة يبدو أنها تعرّفت فيها إلى الشاعرة المرموقة، لتسألها: «... وهذا؟ هل ستكتبين عنه؟». أجل ستكتب! وكتبت بالفعل تلك المجموعة من القصائد العابقة بالمرارة والغضب. بل حتى، المشاكسة منذ عنوانها. فمنذا الذي كان يمكنه أن يعنون مجموعة شعرية بهذا العنوان المقابري الجنائزي الكئيب في «زمن الزهو» و «الانتصارات الكبرى في «وطن الاشتراكية» و «الزعيم المحبوب»؟ > فالحال أن «قداس جنائزي» الذي كتبت أحمدوفا قصائده بدءاً من عام 1936 لم ينجز إلا في عام 1961، ولكن يومها، على رغم «رياح التحرر» الخروتشيفية التي ظللت البلاد السوفياتية بعض الشيء، لم تتمكن أحمدوفا من نشر ديوانها في بلادها، فصدرت طبعته الأولى في ميونيخ مع تنبيه من الناشر كان لا بد منه كما يبدو، تحت إصرار الشاعرة التي كانت تعيش في ذلك الحين آخر سنوات حياتها وتريد أن تمضيها بهدوء ومن دون مشكلات. فقد أشار الناشر إلى أن «هذه المجموعة تُنشر من دون إذن أو علم مؤلفتها». ولسوف يقول المؤرخون لاحقاً إن هذا لم يكن صحيحاً. مهما يكن استقبلت المجموعة استقبالاً حاراً في كل مكان، ولكن ليس في الديار السوفياتية الرسمية طبعاً. اعتبرت تجديداً مدهشاً في الشعر الروسي، بلغتها القاسية ولكن كذلك بهندستها التي جعلتها تبدو أشبه بقصيدة واحدة مؤلفة من عشر صور تقول بعد كل شيء كل ما يمكن لشاعر أن يقوله حول خيبة أمله وحزنه في تلك «الديار السعيدة». ومع هذا لا بد من أن نشير هنا إلى أن آنا أحمدوفا لم تكن في الأصل من أولئك الذين وقفوا إلى جانب الثورة البوليشفية، هي التي لن تنسى أبداً كيف أن الثوار أعدموا زوجها السابق إذ اتهموه بأفعال معادية للثورة، وذلك ما إن انتصروا. كما أنها لن تغفر لهم لاحقاً اعتقال ابنها الوحيد ورميه في السجون. والحال أن هذا كله نجده معكوساً في تلك القصائد الرائعة التي كان عنوانها يكفي لإدراك حجم مشاكستها كما أشرنا فكيف بمضمونها؟ > ومن هنا نتساءل: ترى، حين رحلت آنا أحمدوفا عن عالمنا عام 1966، هل كانت لا تزال تشعر بفداحة الظلم الذي أحاق بها، وأفسد عليها معظم سنوات حياتها، كمبدعة وكإنسانة، طوال حقبة طويلة من الحكم الستاليني في الاتحاد السوفياتي؟. أم أن التكريم الذي نالته خلال السنوات الأخيرة من حياتها كان كافياً للتعويض عليها، ولجعلها تنسى ذلك الظلم؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. كل ما يمكن قوله إن آنا أحمدوفا، اعتبرت خلال سنواتها الأخيرة واحدة من أكبر الشعراء في العالم، ونظر الناس جميعاً، إلى عملين أخيرين لها، على الأقل، بوصفهما من أجمل ما كتبته شاعرة في القرن العشرين. وهذان العملان هما: «قصيدة من دون بطل» و «قداس جنائزي» طبعاً. واللافت أن آنا أحمدوفا نشرت كلاً من هذين العملين خارج الاتحاد السوفياتي على رغم أن الزمن الذي نشرتهما فيه لم يكن زمن اضطهاد ولا ملاحقة. فـ «قصيدة من دون بطل» نشرت عام 1960 في نيويورك، أما «قداس» فقد نشرت في ميونيخ. وهي المرحلة ذاتها التي شهدت عودة ابن أحمدوفا، الذي كان منفياً، كما شهد آيات التكريم تنهال عليها، والنظام الحاكم في موسكو يتهاون مع تصريحاتها ومواقفها، بل يسمح لها، حتى، بالتجوال في أوروبا الغربية، حيث أعطيت شهادتي دكتوراه فخرية في إيطاليا وبريطانيا. > ولئن كان الزمن قد ابتسم لآنا أحمدوفا في سنواتها الأخيرة فإن الوضع لم يكن على ذلك النحو خلال سنوات العشرين والثلاثين، ثم بخاصة خلال الأربعينات، حين صارت السيدة محط هجمات الجدانوفيين، حيث يروى أن جدانوف نفسه كان يقول عنها إنها «نصف راهبة، نصف عاهرة». > ولدت آنا أحمدوفا عام 1889 لأب كان مهندساً في البحرية القيصرية، واسمها الأصلي غورولنكو، أما اسم أحمدوفا (وأصله أحمد) فاستعادته من جهتها التتارية المسلمة كما أشرنا، فرافقها طوال حياتها. ولقد أمضت آنا طفولتها وصباها بالقرب من بطرسبرغ قبل أن تلتحق بجامعة كييف ثم بجامعة سانت بطرسبرغ نفسها حيث درست الحقوق والآداب، هي التي اكتشفت الشعر باكراً، كما اكتشفت لذة السفر وهي بعد مراهقة فزارت إيطاليا وفرنسا، وفي فرنسا تعرفت إلى الرسام موديغلياني الذي خلد ملامحها في لوحات عدة، فقد معظمها خلال الحرب العالمية الثانية. > في 1912 نشرت أحمدوفا مجموعتها الشعرية الأولى «المساء» واتبعتها بعد عامين بمجموعة «المسبحة»، ولقد ساهمت هاتان المجموعتان في التعريف بها في أوساط النخبة الثقافية الروسية الباحثة عن مسالك ومعان في تلك الأزمان الصاخبة. وقبل ذلك بفترة كانت آنا قد تزوجت من الشاعر غوميليف أحد أقطاب النهضة الشعرية الروسية في ذلك الحين كما ارتبطت بالزوجين مندلشتام، ارتباطاً سوف تدفع ثمنه غالياً بعد ذلك خلال حقبة الإرهاب الستاليني. وهي مع هؤلاء أسست في ذلك الحين تياراً شعرياً تميز أسلوبه بالبساطة والوضوح كرد فعل على التيار الرمزي المعقد الذي كان، في ذلك الحين، سائداً في الشعر الروسي. وكانت المجموعة تنهل تعبيراتها من ارتباط جذري ببساطة الأرض الروسية وبالتقاليد الشعبية ذات العلاقة بالروحانية الأرثوذكسية. وهذا الارتباط كلف زوجها غوميليف غالياً عند قيام الثورة حيث إن إصراره على الارتباط بالتقاليد الإيمانية وبالسلطة الملكية، كان ما دفع الثوار إلى إعدامه. أما آنا فإنها ما لبثت أن تزوجت المستشرق شيليكو، ثم أصدرت مجموعة شعرية جديدة في 1923 حملت اسم «العام المقدس 1921»، وكانت آخر مجموعة تصدرها في ذلك الحين. فبسبب صداقتها للثنائي مندلشتام وبسبب مواقفها العنيفة، مُنع شعرها، ثم نفي ابنها بعد أن سُجن، ما اضطرها للإخلاد إلى ما يشبه الصمت المطبق طوال عشرات السنين لم تكتب خلالها أية قصائد كبيرة بل اكتفت بدراسة شعر بوشكين وبأعمال الترجمة. > ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولأنها اتخذت العديد من المواقف الوطنية، وجدت آنا النظام يتسامح معها، فنشرت بعض شعرها القديم ثم نشرت مجموعة جديدة بعنوان «الصفصافة» ثم ازداد رضى النظام عنها بسبب وجودها في لينينغراد أيام الحصار، حيث ساهمت في رفع معنويات السكان وسط مناخات الإرهاب النازي، وراحت تزور المستشفيات وتواسي الجرحى. ولكن ما إن انتهت الحرب وعاد الإرهاب يطاول المثقفين، حتى كانت آنا واحدة من الضحايا، ما دفعها إلى صمت جديد طال حتى 1958، حين أيقظتها رياح التحرر الخروتشوفية من سباتها، لكنها كانت قد أضحت عجوزاً وجزءاً من الماضي. غير أن هذا لم يمنع نهايتها من أن تكون نهاية مجيدة. وهي حين رحلت عن عالمنا نتيجة أزمة قلبية، كانت قد باتت تعتبر واحدة من أكبر الشعراء الذين أنجبتهم روسيا في القرن العشرين. alariss@alhayat.com
مشاركة :