نهج الدباغين في العاصمة التونسية يئن بكتب قديمة تبحث عمن يشتريهالا نحتاج اليوم إلى إحصائيات ودراسات لنعرف أن الشعوب العربية لا تقرأ، تكفي جولة في المكتبات ومحلات الكتب القديمة لنرى القصص والروايات ودواوين الشعر والمجلدات التي تتراكم على رفوفها وقد غطاها الغبار، حتى أولئك الذين كانوا يشترون الكتب ليكملوا بها ديكور الصالون في البيت غيروها بأجهزة إلكترونية ذات وظائف ترفيهية أخرى غير المطالعة، ومحلات سوق الدباغين للكتب القديمة في تونس لا تخرج عن هذه الحال، فهي تفتح كما تغلق يوميا ولا تحرك المنشورات الموجودة فيها ألا قلة قليلة من الزبائن، لكنهم نادرا ما يشترون كتابا.العرب [نُشر في 2018/01/24، العدد: 10879، ص(20)]المعرفة راكدة في الرفوف تونس - بين الآلاف من الكتب المتراصة على درج شقة قديمة في نهج الدباغين بالعاصمة التونسية، وبين رفوف تنوء تحت ثقل مجلدات يفوح منها عبق الزمن، يقف خالد شتيبة في حالة هيام أزلية مع مكتبته. ففي هذا المكان، تتوقف عقارب الساعة عند عشق عابر للزمن، متحديا انسيابه السريع والغزو الإلكتروني الذي حوّل اهتمام الناس إلى وجهة مختلفة وبعيدة عن النسخ الورقية للكتب والمجلات. ثلاثون عاما من عمره قضاها خالد أو العم خالد كما يناديه الجميع هناك، في هذه الشقة المخصصة لبيع الكتب القديمة. غير أن تراكم الكتب عبر السنين جعل مساحة الشقة الصغيرة عاجزة عن استيعاب ذلك الكم الهائل من المجلدات، فكان أن قرر عرضها على قارعة الطريق، لتصبح بمثابة مكتبات صغيرة متناثرة على الرصيف. “قصة حياة”، كما يقول خالد، تجمعه برائحة الكتب القديمة، ورافقته في مسيرته اليومية، حتى باتت جزءا من حياته. “هذه الكتب القديمة أصبحت جزءا مني فهي لا تقدر بأيّ ثمن”، يقول ونظراته تجوب الكتب القديمة التي بات لون البعض منها مائلا للاصفرار، قبل أن يضيف “أتنفس عبق حروفها وأزداد ولعا بها يوما بعد آخر”. عشق رافقه منذ كان مراهقا عندما كان ينزوي في ركن على قارعة الطريق، ليعرض كتبه على المارة. “كنت أبلغ من العمر حينها 15 عاما”، يتابع، حيث “كنت أغتنم تلك الفرصة للحصول على بعض الأموال لتغطية مصاريف دراستي، ولذلك كان عليّ أن أعمل أيام العطل”. ومنذ ذلك الحين، بدأت قصة خالد مع الكتب، ولم تنته حتى اليوم، كما يقول، ليحوّل رصيف “نهج الدباغين” إلى مكتبات صغيرة يجد فيها عشاق المطالعة كتبا نادرة يتجاوز عمرها الـ30 عاما، ويصعب العثور عليها في المكتبات الأخرى.غياب التشجيع من السلطات يحول دون وجود سوق قائمة الذات لبيع الكتب المستعملة في نهج الدباغين وبذات النظرات التائهة في الكتب المصفوفة بغير انتظام على الأرض يضيف خالد “إنها كتب قيّمة وثمينة، ولكنها معروضة على الرصيف، وهنا تكمن ميزتها وخاصيتها”. ففي ذلك المكان، يمكن العثور على درر أدبية أو تاريخية ثمينة من حيث القيمة، إلا أن سعرها زهيد، حيث يتراوح بين 500 مليم (أقل من 0.02 دولار) و50 دينارا (نحو 20 دولارا) أو أكثر بقليل. ورغم أن بيع الكتب القديمة يشكل مصدر رزقه، إلا أن العلاقة الوثيقة التي أضحت تربطه ببعض الكتب، تجعله يرفض التفويت فيها، مشيرا إلى أن حبه لها يمنعه من بيعها. ويقضي العم خالد سنوات بأكملها في انتظار قدوم زبائن ينفضون الغبار عن كتبه ويشترونها. مهنة شاقة وتتطلّب صبرا طويلا، خصوصا مع اكتساح الكتب الإلكترونية العالم، وعزوف القراء عن ابتياع النسخ الورقية. يقول “في السابق، كان عشاق المطالعة يقبلون على الكتب القديمة من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، من وزراء ومثقفين وشخصيات معروفة، فيملؤون قفافهم (سلال تقليدية مصنوعة من سعف النخيل) كتبا، أما اليوم فقد اختلف الأمر كثيرا”. رأي أيّده رمزي الطرخاني، وهو بائع كتب قديمة بسوق نهج الدباغين، والذي يرى بدوره أنّ “الإقبال على الكتاب القديم تراجع مقابل التطور التقني والتكنولوجي، حيث لم يعد يحظى باهتمام كبير خاصة لدى الفئات العمرية الشبابية”. علاقة رمزي بالكتب القديمة تلخصها 18 عاما أمضاها في دكانه الذي يضم المئات من العناوين في مختلف المجالات من أدب وفقه وفلسفة وعلوم وتقنيات وغيرها. كتب أثقلت رفوف محله الصغير، فكان أن اتخذ من الرصيف مكانا يصففها في ركن منه، وأحيانا يتركها متراصة بغير انتظام. يعتبر رمزي أنّ “بيع الكتب القديمة يتطلّب الكثير من الصبر والولع بالمطالعة والحب لهذه الكتب”.علوم وفنون على الرصيف ويبتاع رمزي الكتب القديمة من شركات تونسية مختصة في توزيعها على محلات سوق الدباغين، أو يشتريها من مواطنين وأحيانا من مكتبات تصبح فيها هذه الكتب قديمة. ونظرا لتراجع الإقبال على النسخ الورقية للكتب، بدأت مكتبات الرصيف تلك تفقد الكثير من بريقها، ليقرر عدد من أصحابها الانسحاب بهدوء، فيما يتحدى آخرون حتى اليوم الاجتياح الإلكتروني والصعوبات المالية، رغبة في البقاء. وبالنسبة لرمزي، فإن “غياب التشجيع من قبل السلطات هو ما حال دون وجود سوق قائمة الذات لبيع الكتب المستعملة في نهج الدباغين”، لافتا إلى أن “كل ما ترونه هنا إنما هو نتيجة اجتهادنا الخاص”. ويتابع “كانت السوق في السابق مزدحمة بباعة الكتب، إلا أن محلات لوازم الخياطة وبيع الأقمشة حلت محلها، وذلك بسبب غلاء استئجار الدكاكين والإيرادات المالية الضعيفة لبيع الكتب القديمة”. ودعا رمزي سلطات بلاده إلى “الاهتمام بهذا النشاط على غرار الأسواق الموجودة في كل من مصر والعراق وفرنسا، حيث يحظى قطاع بيع الكتب المستعملة بأهمية بالغة”. من جهته، يعرب العم خالد عن رغبته في أن “يطلق اسم شارع الثقافة على هذه السوق بدل الدباغين”. ورغم ضعف إيرادات بيع الكتب، إلا أن رمزي لم ينجح في الابتعاد عن مهنته، حتّى أن جميع محاولاته الرامية إلى تغيير نشاطه باءت بالفشل. ففي كل مرة، كان حنينه للكتب القديمة يعيده إليها. بين أكداس الكتب المستعملة، وقفت الطالبة العشرينية وفاء عبسي تقلب بين راحتي يديها مؤلفات وروايات قديمة علّها تجد فيها ضالتها. وعن سرّ وجودها في المكان، قالت وفاء “أميل كثيرا للكتب القديمة، صحيح أننا نجد كتبا في الإنترنت بصيغ مختلفة، ولكن أن يكون الكتاب بين يديك فتلك متعة أخرى”. سمير، خمسيني مولع بالمطالعة، وتستهويه بالخصوص الكتب الرياضية، يعتبر أن “السوق شهدت انتعاشة ظرفية إبان الثورة (2011)، حيث لاحظت إقبالا وتعطشا كبيرين للكتب، غير أن هذه الرغبة سرعان ما تقلصت تدريجيا”. وتنتصب سوق “نهج الدّباغين” في قلب العاصمة التونسية، وقد كان هذا الشارع الصغير مخصصا قبل أكثر من 3 عقود لمحلات صباغة الجلود، والتي اكتسب منها اسمه، إلا أن هذه المحلات اندثرت وحلت مكانها دكاكين بيع الكتب القديمة والمستعملة.
مشاركة :