استنفاد المخزون الأخلاقي للثورة بين معركتي الرقة وعفرين بقلم: علي العائد

  • 1/24/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الثورة السورية تستنفد مخزونها الأخلاقي، وهذا أخطر من انسداد الأفق السياسي والعسكري، وأدعى للتفكير في بناء الذات والتعلم، قبل إطلاق ثورة جديدة تتفادى الحفر الأخلاقية والسياسية والعسكرية التي حفرها السوريون أنفسهم.العرب علي العائد [نُشر في 2018/01/24، العدد: 10879، ص(8)] الأتراك لم يتقدموا إلى عفرين إلا تحت ضوء أخضر روسي، مع ضمان حياد قوات النظام الأسدي. والأكراد لم يتقدموا إلى عين العرب-كوباني قبل أكثر من سنتين إلا تحت غطاء جوي من طيران التحالف. كما لم يتقدموا نحو منبج والرقة وريف دير الزور إلا بتفاهم جرى من تحت طاولة العداء الروسي الأميركي، فالطيران المتعادي لا يطير من دون تنسيق شرطي في الأجواء السورية. وحده تنظيم داعش كان يتحرك على الأرض متنقلا من مكان إلى آخر، ومن ولاء إلى ولاء مقارب، دون أن يعرف أي من أعدائه أنه يعيد انتشاره فقط. في عفرين، لم يكن الخلاف بين السوريين على العملية العسكرية التركية جديدا، فالتضامن مع المدنيين السوريين الذين يتعرض أمنهم لاعتداءات متكررة، من أطراف مختلفة، يكونون أحيانا من ذوي القربى الأخص، يأخذ طابع العصبية والقربى، دون أن يتعدى إلى المواطنة التي لا يتفق ربما سوريان اثنان على تعريفها، على الأقل في مجتمع فيسبوك. حاول بعض السلميين التأكيد على أن سكان عفرين مدنيون، ويستحقون التضامن معهم، كما استحق سكان الرقة التضامن معهم، لكن بعضا غير قليل من هؤلاء وأولئك ذكروا “الآخر” أن عموم الأكراد لم يتضامنوا مع الأكثرية العربية في الرقة، فجاء عتبهم على العرب، بالتالي، متأخرا في مسألة التضامن مع أكراد عفرين. هذا على الرغم من معرفة الجميع أن عفرين اليوم ليست كردية فقط، وليست كردية مئة في المئة في الأصل، وليست كردية اليوم كونها استقبلت الكثير من النازحين من مناطق أكثر سخونة عسكريا. أما تسمية تركيا للعملية العسكرية على عفرين باسم “غصن الزيتون” فاستقطبت سجالات مخجلة لمن أراد التفكير أن هنالك بقايا من “مجتمع سوري”، إن كان هنالك مجتمع سوري في الأصل. ومسألة وجود هذا المجتمع، من عدمه، فضحتها خطابات التضامن المناطقية الداخلية الانتقائية، قبل خطابات الولاء المستجد للظاهرة الأردوغانية المبررة بضرورات الأمن القومي التركي المحقة في بعض جوانبها، خاصة لجهة تمثيل حزب العمال الكردستاني، التركي، في شمال سوريا، لكن هذا التضامن الانتقائي والخلاف حوله، هما ما أنتج خطاب استدعاء “ظاهرة صدام حسين”، والهتاف لأردوغان، في حرب ليست حرب الجيش الحر، إذ لا فرق هنا بين الولاء لإجرام النظام الأسدي، وبين الولاء للدولة التركية كرد لجميل استقبالها للملايين من السوريين خلال السنوات السبع الماضية. على أن الاستزلام في كل وقت هو ظاهرة فردية مهما بلغ، لو لم يعبر عن خلل مجتمعي فائض على البحث في حالة الاستقطاب السوري الحاد العابر للحدود التي انتشر فيها السوريون. باختصار نحن السوريين مجتمع أفراد. سمعت هذا التعبير، أو قرأته، في رسالة من أدونيس إلى أحد الأصدقاء في منتصف تسعينات القرن الماضي. كما أذكر أحد مشاهد مسرحية “فيلم أميركي طويل” لزياد الرحباني في وصفه المنتوج الاجتماعي للحرب اللبنانية، فثلاثة لبنانيين لا يعني “ثلاثة”، بل واحدا زائد واحد زائد واحد. وفي الواقع ينطبق ذلك على كل المجتمعات العربية، وغير العربية، إن تشابهت الظروف. فإذا نحينا دور الدستور والقوانين في البلاد المتقدمة، سيرتد أفراد تلك المجتمعات إلى حالة تشبه حالة الفرد العربي الذي لا تجمعه بالفرد الآخر حتى المصلحة. والخيارات الفردية في سلسلة الأزمات التي نعيشها كسوريين على خلفية الثورة التي يحاول اغتيالها عسكريون أميون، وسياسيون غير منتخبـين، نجدها كـل يوم في حياة اللجوء والنزوح، بل حتى في المناطق التي يتحكم فيها النظام الأسدي، وتعد آمنة ومستقرة بفعل الخوف المستحكم في سوريي الداخل من رقابة النظام، ومن الذهاب إلى خيارات المعارضة غير الجديرة بالثقة. الآن، لدى السوري الكردي في عفرين أكثر من الريح ليقبضها، ولديه خيارات أكثر من الآلام ليتشاركها مع الأخ الكردي، والجار والصديق العربي، وغير العربي، حتى لو طفا على السطح منطوق الفضاء الأزرق الذي يعزز العنصرية أكثر مما يعزز الحوار، بين “الكردي” و“المستوطن” في القامشلي، وبين “العربي” و“الانفصالي” في شمال سوريا كله، وبين “بي. كي. كي” و“بواق الدجاج” في اللغة الشعبية، وبين خيارات سياسية شعبوية يتبارى فيها الطرفان. هذا النوع من البوح على هامش مأساة أخرى يضطر المدنيون في عفرين ومحيطها على تجربتها تستحضر خيالات نقاشات مع أصدقاء أكراد، أهمها ما قاله لي الطبيب الكردي صالح بوزان، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، أن هذا الشرق المتخلف ليس في حاجة إلى دولة فاشلة جديدة، في إشارة إلى حركة عبدالله أوجلان، في بداية الصدام المسلح بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. والطبيب بوزان نفسه كان حريصا على عدم احتكاك ابنيه، كاوا وجان، مع الشارع العربي في حي الميدان في حلب، كي يتعلما اللغة الكردية على أصولها في البيت دون تشتيت عقل الطفلين بين أكثر من لغة، على أن يتعلما العربية في الروضة والمدارس، وهو ما كان. كان الطبيب يلح في حديثه على ضرورة بناء الذات والتعليم والمحافظة على ثقافته القومية الكردية، مع انفتاحه على الثقافة العربية والثقافات الأخرى، من دون التطرق مرة إلى دولة كردية، أو كيان كردي ذاتي الحكم. لا أعرف إن كان أبوكاوا لا يزال عند رأيه ذاك، فالمأساة أخذت الكثير من أفكارنا المسبقة، كما أن السياسة تتغير، والمواقف تتغير عند اصطدامها بجدار الحياة. استقوى الأكراد السوريون بالسلاح، ونسجوا تحالفات متعدية في السياسة، على الرغم من خبرتهم المسبقة في هذا المجال، وتأكدهم من أن الدول الكبرى لا تتعامل سوى مع دول، فروسيا أعطت الضوء الأخضر للأتراك للاستيلاء على عفرين، بل أعلنت أنها لن تتدخل إذا ما حدث نزاع عسكري بين تركيا وقوات النظام، واثقة أن حليفها الأسدي أعقل من أن يخوض هكذا حماقة، كما سبق له أن فعل في صمته عن كل الاعتداءات الإسرائيلية خلال سنوات طويلة قبل الثورة السورية وخلالها. وأميركا ترى أن عفرين خارج منطقة عملياتها، ومن غير المستبعد أن تقول قريبا إن منطقة الجزيرة خارج عملياتها أيضا. تبقى الحيرة لا علاج لها في مسألة اصطفاف السوريين في مواجهة بعضهم، تنفيذا لأجندة أميركية في الرقة، وتنفيذا لأجندة تركية في عفرين. ومصدر الحيرة يأتي من وضوح أهداف أصحاب تلك الأجندات لـ“قوات حماية الشعب”، ولـ“الجيش الحر”، ومن انجرارهما إلى التنفيذ، بل والدفاع عن “أخلاقيات” أصحاب الأجندات، من دون إدراك أنهما ينفذان أجندة واحدة شتتت الشعب السوري، ليس في الجغرافيا فقط، بل كذلك في خيارات ثورته الأخلاقية في جوهرها. ومن هنا، تحديدا، يمكن تبرير كل التشـاؤم المتوقع في الأيـام التالية، حتى لو لم تقع معركة عفرين. فالثورة السورية تستنفد، شيئا فشيئا، مخزونها الأخلاقي، وهذا في حد ذاته أخطر من انسداد الأفق السياسي والعسكري، وأدعى للتفكير مع الطبيب أبوكاوا في ضرورة بنـاء الـذات والتعلم، قبل إطـلاق ثورة جديدة تتفادى الحفر الأخلاقية والسياسية والعسكرية التي حفرها السوريون أنفسهم. كاتب وصحافي سوريعلي العائد

مشاركة :