إن ما يجري من أحداث مهولة في منطقتنا العربية يؤكد لنا أن المنطقة تتجه للتغير عما اعتدناه قبل سنوات، ولا يعلم أحد كيف ستكون وعلى أي مدى وبأي ثمن، لكن من المؤكد أن لا أحد يستطيع تخيل عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2003م. هناك من يرى أن ما يجري اليوم هو استكمال لما بدأه الاستعمار الغربي نهايات سقوط الإمبراطورية العثمانية، حين تم تقسيم الوطن العربي حسب اتفاق (سايكس بيكو) وقامت الدولة العربية القطرية حسب المناخ الجيوسياسي في كل قطر، فنشأت الإمارة والمملكة والجمهورية والسلطنة وأسست جامعة الدول العربية، وبدا وكأن الأمر قد استتب في المنطقة لولا وجود الكيان الصهيوني الذي كان يخلق بين فترة وأخرى تناقضات سياسية بين الأقطار العربية ويصدها لفترات مؤقتة عن التركيز البناء في التنمية والتطوير، إلى أن اتفق رئيس مصر آنذاك مع إسرائيل على صلح منفرد عام 1979م لينشق الصف العربي ويتخلخل توازن هذه الأقطار فيما بينها من جهة وما بينها وبين الكيان الصهيوني من جهة أخرى، وتتحول (لاءات) الخرطوم الثلاث إلى مبادرات سلام في فاس وبيروت. وهناك من يقول إن فشل الدولة العربية في استثمار الاستقلال في البناء الحقيقي للإنسان والدولة وعدم مواكبة التحول الاجتماعي السريع من التخلف والأمية إلى اليقظة في الوعي والعلم واكتفاء بعضها بالإنتاج الريعي، وبعضها الآخر بالتنظير الأيدلوجي في السيطرة والتحكم بمسار المستقبل ولد حالة من الانفصام في اغلب الأقطار العربية بين الطبقات الحاكمة والمحكومة، ويستشهدون على صحة ذلك بظهور الجماعات المسلحة التي لا ترفع اليوم رايات التحرر والاستقلال كما حدث في بدايات القرن العشرين، وإنما رايات الإسلام والجهاد (حسب زعمهم)، في حضور تدخلات أجنبية وفراغ عربي إسلامي عن التأثير، مما جعل الدولة القطرية مهددة ليس من خارجها فقط بل ومن داخلها، وفي اليمن وليبيا وسورية والعراق ولبنان وفلسطين ومصر صور حيّة شاهدة على ذلك. وهناك من يقول انه صراع الحضارات الذي يجتهد الجميع في نفيه وان زلّت به ألسنة البعض، على سبيل المثال أعلن بوش الصغير بعد أحداث سبتمبر عام 2001م انه في حرب صليبية، وفي مقال سابق لم ينشر بهذه الجريدة كنت تساءلت عن جدوى إنكار المؤامرة في صراع الحضارات وصرت ألحظ - ربما لاهتمامي بهذا الاتجاه - ظهور تقارير ومقالات عربية وغريبة تتحدث عن حقيقة صراع الحضارات والربط بينها وبين ما يجري اليوم في المنطقة وفي صحيفة (هافينغتون بوست) الفرنسية ظهر تقرير بعنوان (الشرق الأوسط مقبرة الحضارات)، تحدث فيه التقرير عن تاريخ الحروب والمعارك التي دارت في المنطقة منذ ما قبل الميلاد إلى حروب اليوم لتأكيد الصراع الحضاري، أنقل منه فقرة قد تعطي صورة أو ملمحا للتقرير جاء فيها (بالتأكيد، سيكون من قبيل المبالغة أن نرى في هذا الصراع «صدام الحضارات»، ولكن لحركة تطلق على نفسها اسم «دولة إسلامية»، فإننا لا يمكن أن نخرج هذا الصراع من هذا التصنيف)، وعربيا بدت تظهر ملامح صراع الحضارات اكثر فأكثر في آراء وأفكار كتاب كثيرين ليس هنا مجال للسرد والاستشهاد ولكن هي صورة أخرى تضاف لما يقال حول ما يجري في منطقتنا اليوم. أياً كانت القراءات والرؤى حول ما يجري والى أين يتجه فلا أحد يستطيع تكهن النتائج ومدى جودها أو سوئها في نهاية الأمر، بيد أن الأخطر من هذا كله هو انه وفي خضم التأزم وتكالب المحن تكون الأخطاء فادحة وكارثية، ويزيد من الطين بلة أن ينظر للوضع غير الطبيعي بنظرة تقليدية وينحى لمعالجتها بنفس السياسات التي استدعتها، هذا في جانب وفي الجانب الآخر فالخطر يكمن في اعتقاد البعض أن الفرصة مواتية للقفز في خضم هذه الأحداث لتحقيق الطموحات، في وقت تتداعى فيه الأخطار من كل اتجاه وصوب، وهي اللحظة الحقيقية للتكاتف والتلاحم والتعالي المحمود على الاختلاف والـ(أنا) الأنانية إن أردنا حماية أكبر قدر من المكتسبات، أما احتمال عودة المنطقة العربية لسابق عهدها قبل عقد أو عقدين فقد يبدو اليوم صعب التخيل.
مشاركة :