يقدِّم د. محمد تحريشي قراءة نقدية في رواية «لا موسيقى في الأحمدي» للروائية منى الشمري، مركزاً على الخصائص الفنية والقيم الجمالية في العمل الادبي. «لا موسيقى في الأحمدي» نص سردي يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ الكويت بما رصده من وقائع وأحداث ومشاهد لأهم التحوّلات الاجتماعية والسياسية بقلم كاتبة واعدة تسعى إلى إضافة نوعية إلى الرصيد الروائي في هذا البلد الشقيق، بما حملته الرواية من خصائص فنية وقيم جمالية. كاتبة النص روائية مميزة تجيد فن الملاحظة ولذة الاستماع ومتعة النقاش، وهي امرأة صناع تجيد إدارة الفرشاة وهي ترسم تلك الصور الجميلة الآسرة للقارئ. قراءة رواية "لا موسيقى في الأحمدي" للكاتبة منى الشمري والصادرة عن دار «نوفا بلس للنشر»، لا بد لها من أن تعول على أدوات إجرائية قد تنهل من الرصيد التراكمي للكتابة الروائية في العالم العربي، وتنهل أيضاً مما وصل إليه الخطاب النقدي، وتعول على مرجعية معرفية بأدوات قراءة النصوص السردية التي قد تتقاطع في ما بينها. وقد يطرح النص أدواته الخاصة به والتي ربما تمثِّل المتباين أو المختلف الذي لا يعني النمطي أو النوعي، وإنما انفتاح النص على خاصية فنية تؤسس لقيم جمالية. مسألة تموقع الكاتب داخل الخطاب الروائي تطرح أكثر من سؤال، وهل يكون هذا التموقع إرادياً وبوعي منه؟ أو أن الكاتب يتموقع بشكل غير إرادي أو أنه غير بأي تموقع من أي نوع. فهل على الكاتب أن يتموقع ويتموضع في روايته؟ وهل أن هذا التموضع ثابت أو متغير؟ وهل هو مجبر على التحكم في الأحداث وفي الشخصيات متفرجاً أو فاعلاً أو مؤثراً فيها؟ وأين هو من المكان والزمان؟ ومتى تكون لغة رواية ما تعبِّر عن هذا التموضع؟ التكرار والمعاودة والإعادة من المسائل التي تواجه الكاتب في إبداعه، وكيف عليه تجنّب الإسراف اللغوي والترهّل الأسلوبي، ومن ثم يوظف علاقات إسنادية تفيد من هذه الخصائص من دون أن تثقل النص عبر تنويعات لغوية لرسم مشاهد عن المكان والزمان ولحركية الشخصيات ولما تقوله وكيف يمكن المعاودة من دون الوقوع في التكرار. التموقع في العنوان التموقع ها هنا يبدأ مع العنوان من خلال بنيته اللغوية التي اعتمدت على صيغة النفي التي تقتضي وجود من يسأل عن هذه الموسيقى في الأحمدي، ويقتضي هذا الموقف وجود ثلاث حالات؛ أولاها عدم وجود الموسيقى، وثانيها وجود هذه الموسيقى لأن نفيها لا يعني عدم وجودها، وثالثها أنها موجودة ولكن لم تحقق رضا الذوق الفني والجمالي. العنوان بهذه الصيغة دعوة إلى التحقق من هذه الحالات. ومن هنا يبدأ التموضع للإعلان من خلال حيز محدد عن موقف فني وفكري واجتماعي وأيديولوجي وحتى نفسي من الحياة في الأحمدي الصورة المكثفة للكويت، والتي جاءت الرواية لترصد أهم التحولات الحاصلة فيه، وعبره يتم رصد إيقاع الكويت في حركية المجتمع والأفراد ما دام أن الموسيقى هي إيقاع في الأساس ونفي وجود الموسيقى هو نفي للحياة. الحياة إيقاع وتناغم وانسجام وتبدل وتنافر وقد يتطور إلى أن يصبح تصادماً أو نشازاً، وقد يبدو إيقاع الحياة بطيئاً بفعل العادات والتقاليد أو بفعل سلطة بعض الأعراف أو سلطة بعض المؤسسات المرجعية، ما يجعل هذا الإيقاع رتيباً ومتكرراً غير مواكب لروح العصر، بينما الموسيقى جاءت لتوحد المختلف والمتباين وتضم النمطي إلى النوعي، وتعتمد الموسيقى على تعدد الأصوات la polyphonie للوصول إلى التناغم والانسجام والتناسق والاتساق. هذا العنوان برر فنياً تداخل الموسيقى والسرد في هذه الرواية، بل هو الذي سوغ هذا الحضور القوي للموسيقى في الرواية، وتحوّلت لغة الموسيقى إلى لغة روائية بامتياز، ما جعل منى الشمري تعزف نوتات سردية في هذا العمل وتجعل الحكاية تحلو متابعتها ويصبح الأحمدي لقاء الحضارات وتفاعلها عبر المنتج البشري. «قاعدة على الشط» يرصد تحريشي جانباً من الأغنيات التراثية في العمل الأدبي مسلطاً الضوء على هذا المقطع من الرواية: "نجلس ندوِّن في أوراقها، تسألني عن بعض الكلمات والمعاني وعن ألعاب البنات والأولاد وأغانيهم، وتحثني على الغناء لها مأخوذة بي: «قاعدة على الشط» قاعدة أتمشط جالها الرومي قالها قومي قالت له ما بي هذا حصاني أشده وأركب على السكركب". تصفق لي بحماسة بالغة وتدوّن كل ما يخص ألعابنا الشعبية، وقبل أن أغادر تهديني بنطال جينز، يشبه الجينز الذي ترتديه، كان قد وصلها بطرد مع بضاعة طلبتها من لندن، وتدس في جيوبه حبات من التمر اليابس دوماً، تقول إنها تمنحها طاقة فورية. أتركها تقضي وقتها بين الكتابة والتجارة». وبذلك يصبح السؤال عن الأحمدي وموسيقاه وعن تحوله من تلقاء ذاته أو بفعل خارجي أو بشكل طبيعي بفعل توافر مجموعة من المعطيات والأسباب. لا موسيقى في الأحمدي عنوان فخ على الرغم من أنه يبدو مسالماً غير صادم للقارئ أو مستفزاً له، وكأنه لا يحارب قناعات ويفسد نوايا ولا يغير تفكيراً ولا يبدِّل نمط معيش. نادراً ما تتصف اللغة الروائية بالحياد، بل إنها تعبير عن موقف من الحياة ومن الواقع ومن كل ما يقع؛ تقول: "نصل الأحمدي التي يكرهها جدي، المدينة المتلألئة دائماً، والتي تحمل كل المتناقضات معاً". وبذلك ترصد اللغة المفارقة بالجمع بين الشيء وضده، فبين كره الجد لهذه المدينة وبين تلألؤ المدينة تكون الأحمدي مدينة المنتاقضات بين العقل والرغبة.
مشاركة :