كيف وجدت موائد الأثرياء طريقها إلى «الفقراء» 

  • 1/25/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

«أنصت». هكذا اقتبس غلام الله (مستعار) شطراً من حديث نبوي ليفحم الفضول الصحـــــافي، ليرتـــد صامتاً والإمام يخطب في الجامع الوحيد الواقع بجوار الفندق حسن السمعة هذه الأيام «ريتز كارلتون». الصمت ليس دائماً هو «الذهب»، ولكن الكلام أيضاً أحياناً. هكذا هتف المارد الصحافي في داخل من زعم حضوره لأداء صلاة الجمعة، وهو يرى فتىً بدا أنه من «لاهور» يرتدي بدلة أنيقة، لا تحتاج إلى كثير حدس، لتقول إنها آتية - لا ريب - من فندق في الجوار. وليس أقرب إلى الذهن في تلك الناحية من نزل «علية القوم» طيب الذكر إياه. وإذا كان من حسنة يتفق عليها المحبون والناقمون على السلطات السعودية، أو أكثرهم على الأقل، هي أنها حتى حين أرادت ملاحقة نخبة من أبنائها الأثرياء بتهمٍ ثقيلة، مثل الفساد والسطو على المال العام، رحمت أعزاء القوم حين ذلوا وأسكنتهم ليس مساكن الذين ظلموا ليتبين لهم كيف طبقت فيهم القوانين، ولكن أنزلتهم منزلة «لائقة بهم»، إبقاء على حبل الاحترام ممدوداً على طريقة «أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم». ليس هذا موضوع النقاش مع غلام الله، ولكن السؤال كان همساً والإمام يخطب: «هل أنت من موظفي الريتز»؟ تطير سبابته إلى فيه مع همس أخف «أستغفر الله. أنصت». الامتثال واجب، ليس فقط لأن التوجيه النبوي جدير بالاحترام، ولكن أيضاً لأن تقديم فروض الطاعة تذلل نفوساً وصعاباً، والأمل ما يزال معقوداً بعد فراغ الإمام من الخطبة. لعله ولعله. من دون قصد، بدت المشاعر السلبية نحو الخطيب تتراكم. «أنت فين ونحن فين» يتردد صدى الفضول الصحافي. تخطب عن العانسات، وفضائل الرضا بالأكفاء، ونصح الفتيات ألّا يعلقن الزواج بإنهاء الدراسة الجامعية، وصاحبك همه تارة مع «الريتز» وأخرى مع فتى لاهور، خوفاً من هربه أو تسلله لواذاً ساعة الإقامة إلى صف آخر أو ناحية تنهي الآمال بسبق صحافي، لم تزهد فيه «بي بي سي» وهي المثل المهني الأعلى حتى الآن، على رغم «حركاتها اليسارجية» أحياناً، فكيف بالفقراء إلى الله من أبناء مهنة المتاعب الباحثين عما يسمن، بعد أن أغناهم الله سنين من جوع وآمنهم. وأخيراً انتهت الخطبة. «ألا فلتذهب العانسات» هتف الشيطان، قبل أن يرد الصدى غلام الله، «وعليكم السلام ورحمة الله»، فمددت يدي مصافحاً. كأنه يسلم علي وليس يؤدي شعيرة بدايتها التكبير وختامها السلام. نظر إلي بغموض؛ لا شزراً ولا وداً. للأعاجم تعظيم للشعائر لا ينكر، يفتقر إليه العرب كثيراً. جربت ذلك مرات عدة أيام الطفولة، حين يصادفوننا نلهو على جنبات الحرم، وهم يغالبون دموعاً أضنتها الأشواق إلى البنية الشريفة، فور أن تبدو لهم رأي عين، يزينها الجلال وتغشى جنباتها السكينة. لهذا من المستحسن حدثت الشياطين أن تتغير الاستراتيجية. > السلام عليكم. تقبل الله. اسمي فلان، أعتذر عن المقاطعة أثناء الخطبة، نسيت النهي الوارد؛ أرجو أن تغفر لي! - وعليكم السلام ورحمة الله، مرحباً، لا بأس. اسمي غلام الله. ماذا كنت قلت لي؟ > لم أقل شيئاً مهماً. انس الموضوع. هل تعرف ما ذا قال الخطيب (بعد أن اكتشفت أنه لا يتقن العربية جيداً)؟ - لم أفهم كثيراً. كانت هنالك الآيات والأحاديث النبوية الشريفة. أظن الموضوع عن «الزواج». تردد هذا المصطلح كثيراً. أليس كذلك؟ > إلى حد ما، كان عن الزواج، ولكن الزواج مواضيعه كثيرة. (أردت إثارة فضوله لأمتنّ عليه حتى يرد إلي الجميل). - صحيح، بالطبع. عن أي شيء تحديداً. لدينا في باكستان تقاليد متشعبة عن الزواج. > معذرة إليك مرتين، الأولى نيابة عن وزارة الشؤون الإسلامية، لأنها لم توفر جهاز ترجمة فورية في المساجد، وخصوصاً في مثل هذا المسجد، الواقع على أبواب الحي الدبلوماسي في المدينة، والثاني أصالة عن نفسي، إذ إن لغتي الإنكليزية لا تؤهلني تماماً لترجمة تليق بمضامين خطبة الإمام، هو قال كذا وكذا. - (بدأ يبتسم) لا بأس أنا أفهمك. صحيح الترجمة مهمة، وقد ذهبت أخيراً إلى مكة ووجدتهم في البيت الحرام وفروا أجهزة للترجمة الفورية. الموضوع شائق، وأنا أفكر حقاً في الزواج. هو مشروع الاستقرار والحياة. بعدها، أصبح الميدان رحباً للسؤال، ليس عن «الريتز» وضيوفه وأكلهم وشربهم، ولكن أيضاً عن خصوصيات أهم وأكثر إحراجاً. هكذا كان الظن. أسئلة الملايين! غير أن الحس الأمني لم يغب عن الرجل الفطن، الذي ذكرني بأسطورة وثقها أحد العاملين القدامى في شركة «ابن لادن السعودية»، قال إن الشركة استعانت في فترة من عملها بمتقاعدي الجيش الباكستاني في أعمال تنظيف المسجد الحرام والمسجد النبوي، ففسر بذلك لغزاً يعرفه كل زوار الحرمين الشريفين أيام الأمطار، إذ يتفنن العمال تلك الأيام في خطف الأنظار وإبهار الحضور، بخطوات أقرب إلى الطيران منها إلى المشي على الأقدام، وهم يجمعون بين طي الفُرش كي لا تبتل بالمطر، وبين غسل الساحات المكشوفة، في لمح البصر، على نحو لو تم توثيقه لكان فيلماً غنياً بالإثارة تلك الأيام. عاد غلام الله يطرح الأسئلة: «ما يدريك أنني من الريتز»؟ فيكون الجواب: «الموضوع لا يحتاج إلى كثير ذكاء. لبسك هذا الأنيق لا يليق إلا بالفندق الوثير إياه. لست أمانع إن بادلتك إياها بثيابي هذه». هذا لطف منك يقول، «بالفعل حدسك صحيح أنا أعمل هنالك، ولدينا تعليمات مشددة بعدم الخوض في أي شيء له علاقة بالعمل، وخصوصاً في الفترة الراهنة. أنت تعلم أن الفندق أصبح حالياً نزلاً لعدد من الأثرياء والوجهاء السعوديين، بعد الأحداث التي سمعتم بها قبل أشهر». - أتفهم خصوصية عملك، لكن حدثني كيف العيش في الداخل، هل بالفعل باذخ حقاً؟ لم أدخله سوى مرة خاطفة في مناسبة (للأمانة لم أقل صحافية). - بالنسبة إلي أو أنت لا أدري. باذخ جداً. لكن لآخرين مثل من يسكنونه حالياً، أظن أنه يبدو عادياً. > هل سمعت حتى أنت إذاً أن ثرواتهم بالبلايين؟ - (ضاحكا) ومن الذي لم يسمع؟ الريتز قصة القرن. تحدث عنها الجميع، كل بلغته وزاويته ولسانه. > وأنت ما زاويتك؟ - أنا أحوم حول المطبخ وتجهيزات الموائد. - كم أنت محظوظ هذه الأيام إذاً. على الأقل تشبع فضولك وترى أرباب البلايين كيف يعيشون ويأكلون ويشتهون. أظنك ستؤلف كتاباً. > هل تسخر مني؟ - عفواً منك. لو كنت مكانك لفعلت. ليس جميع المؤلفين يكتبون كتبهم. المهم أن تملك المعلومة. شعرت وهلة بأن ضيفي بدأ يتململ من أسئلتي، وخشيت أن يكتشف أنني صحافي، فيتبرأ مني قبل خروج آخر المصلين من الجامع. ولذلك سايرته وبدأت أبحث عن حيلة أخرى، وما أكثر ما يحتاج عالم الصحافة إلى الحيل. هذا يعني أنك تنتظرك موائد دسمة وفاخرة من الكافيار، والحاشي، وسواها، هل يمكن أن تصحبني معك، الجمعة يوم مفتوح؟ ليضيف «أعتذر منك، الطعام كثير وكثير، ولكن ليس كما تتصور. الآن حان وقت انصرافي. فرصة طيبة». حدثتني حينها الشياطين أن أتبع «الصيد» وأخترع حيلة أخرى، لكن فطنة رجال السند لا تجارى، فما إن رآني خارجاً إثر خطاه حتى استقل مركبته (شاحنة أغذية) مع مجموعة من زملائه الذين ينتظرونه، ولوح بيده مودعاً. ولدى محاولة تتبع خيوط غلام الله، حصلت «الحياة» على أرقام هواتف لمجموعة من الصفوف الأولى في تقديم خدمات الضيافة لنزلاء «الريتز» الجدد، وربما القدامى أيضاً، وإن كان الفارق في حساسية الموقف لا بد أن يختلف. فبعد التواصل مع «أحمد» (مستعار) نفى في البداية أن يكون الشخص المعني، قائلاً: «الرقم خطأ». ألست أنت صاحب اللقب المشهور (...)؟ يجيب: ها، لا. ليس هو أنا، ولكن زميلي في العمل، وهذا هاتف العمل، يرد عليه الشخص المناوب. من أعطاك الرقم، وما ذا تريد؟». وهكذا بدا أن صفقة أخرى من قبيل زميل الجامع لن تتكرر، وخصوصاً بعد ادعاء المجيب أن أي سؤال عن الفندق المثير غير مشروع، وأنه ليس مخولاً بالإجابة حتى لو علم شيئاً. ماذا عن «الكافيار»؟ لكن لدى التواصل مع عدد من الجهات المختصة بـ«التموين» تبين أن هنالك قصة أخرى تستحق أن تروى، حول أصناف وأطباق النزلاء الجدد، وخصوصاً أن كثيرين يتوقعون أن شريحتهم من الأثرياء لا تشاركهم الاختيارات والأطباق نفسها. وكان الاتصال بمدير جمعية «حفظ النعمة» الخيرية عامر البرجس، أكثر سلاسة عندما أكد لـ«الحياة» أنهم جمعية خيرية يتلقون دعوات من كل الأماكن التي تقام فيها المناسبات في الفنادق وصالات الأفراح، بما في ذلك داخل حي السفارات أو فندق «ريتز كارلتون»، الذي قال إنه بدا أن لديه فائضاً من الطعام في الفترة الأخيرة، استدعت منه طلب خدمات الجمعية، التي تقوم وفق اسمها على «حفظ النعمة» بعد أن شاعت تصرفات اجتماعية غير لائقة، اتجهت نحو التبذير وما يسمى في الأوساط المحلية بـ«الهياط»، استدعت انتقادات إعلامية وفنية ومحاصرة رسمية. إلا أن البرجس أكد أن جمعيته التي وزعت العام الماضي نحو 3 ملايين وجبة من فائض الأطعمة على المستفيدين، لم تحصر كم هي الأعداد الفعلية من الوجبات التي كان مصدرها «الريتز». وقال: «سياستنا في الجمعية الملموس لا نلمسه، حفاظاً على صحة المستفيدين، ولذلك لا نجمع إلا الوجبات التي لم تستخدم نهائياً، كما أننا نتجنب المأكولات البحرية، لأنها سريعة الفساد، على عكس أطعمة مثل اللحوم والأرز وغيرها من الأطباق الشعبية». ولدى سؤاله عما إذا كان هنالك أي من أطعمة «الريتز» لفت انتباهه، مثل أطباق من بينها «الكافيار، ومفاطيح الحاشي»، استغرب البرجس هكذا تساؤلاً، مؤكداً أن «الكافيار محسوب على السمك الذي لا نهتم بجمعه، لكن عموم ما نراه من الأطباق في الفنادق ليس «الريتز» فقط، من نوع ما يألف الناس، وليس له أي خصائص عن بقية الأصناف المعهودة «والأكل هو الأكل». ومع أن النزلاء أصحاب بلايين، وبوسعهم طلب ما يشتهونه على حسابهم الخاص، فإن مصدراً آخر (فضل عدم ذكر اسمه) اعتبر هذا النوع من الأطعمة يطلب في الغرف، وليس مما يمكن لجمعيات «حفظ النعمة» أن تشاهده، فضلاً عن أن تجمعه. لكنه ألمح إلى أن بوفيات الغداء والعشاء التي يقيمها الفندق للعامة ليست بالفخامة المتصورة، ففي أحد الأيام شاهد شعاراً لمطعم معروف مشهور، ترتاده شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة والأدنى منها، عبر فروعه المتعددة، ما يشير إلى أن نخبوية المحتجزين ليست بالضرورة أن تكون مترجمة في الوجبات العامة. غير أن الموقع الرسمي للفندق على «بوكينغ»، كان أكثر سخاء بمعلومات النزل، الذي بدأ يقبل حجوز الراغبين بحسب التطبيق الشهير، منذ الـ15 من شباط (فبراير المقبل) وفق أسعار تبدأ من 2.613 ريالاً، منوهاً بأنها ذات طلب مرتفع. وكان الفندق، الذي أضحى حديث الناس بعد حجز أثرياء فيه، يبدو أنه تنبأ منذ حين بأنه سيكون مسرحاً للمشاهير من أي نوع، إذ تقول دعايته، التي لم يزل يرددها «اشعر وكأنك نجم واستمتع بالمعاملة والخدمات الراقية». ويقول إنه تتوافر في مطعم البوفيه الرئيس قائمة إفطار يومية، ويمكن للضيوف الاختيار ما بين المأكولات اللبنانية والإيطالية والصينية، أو طلب أطباقهم المفضلة من طريق خدمة الغرف، كما يعتبر «التراس» الخارجي منطقة ممتعة لتناول الشاي بعد الظهر. ولم ينس القول إنه «يمكن للضيوف أيضاً الاستمتاع بتشكيلة واسعة من السيجار الكوبي». كما يؤكد أن «قبة المسبح تحوي نوافذ ممتدة من الأرض حتى السقف توفر إطلالة على الحدائق ذات المناظر الطبيعية، وتشمل منطقة العافية أيضاً «ساونا» ومركزاً للياقة البدنية، لممارسة التمرينات الرياضية، ويمتاز الفندق أيضاً بصالة بولينغ من ستة ممرات تقدم الكوكتيلات غير الكحولية والعصائر». ولفت إلى أن الأزواج، تحديداً، «أحبو الموقع، وقوّموه 8.7»، وهذا ما صادق عليه زكريا من السعودية، في تعليقه على الموقع (بوكينغ) الذي يدوّن انطباع الزوار كما هو، من دون تدخل، إذ قال إن الفندق مرتبط بذكرى زواجه، إذ «قام الموظف بإبهاري بالتحضيرات داخل الغرفة من ورد وحلوى». لكن مواطنه الآخر فهد كان له رأي آخر، إذ أضاف «كان العشاء رائعاً ومنوعاً، والسرير مريحاً جداً، ولكن الإطلالة كانت سيئة، والستائر تقليديه وغير مصانة في الإغلاق والفتح، البهو جميل لكن كثرة الزوار تفسد المكان». وبين مطالب النزلاء القدامى والحاليين والآتين، بحسب «البوكينغ» بعد منتصف شباط (فبراير)، لا ندري على أي جانب ستميل كفة الفندق «مالئ الدنيا وشاغل الناس».

مشاركة :