السيسي ليس هو الحاكم النموذجي الذي كنا نتمناه بعد موجتين ثوريتين أطحنا خلالهما برئيسين. وصحيح أن أخطاءه، منذ أن تولى عمليا زمام الأمور في البلد بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين عام 2013، اقتربت من الكوارث أحيانا. لكن عند التفكير بشكل استراتيجي في مصير مصر كأمة وفي لحظة تمحى فيها دول من على الخارطة، وتنزلق أخرى إلى النسيان لعقود مقبلة، يجب أن تكون المعارضة مسؤولة ومتجرّدة ونزيهة. أعلم أن هذا النوع من المعارضات اختفى تقريبا من مصر اليوم. الكثيرون ممن لديهم رؤى مغايرة لمسار الحكم لكن في نفس الوقت عينهم على الوطن، صاروا يخافون من مجرد التفكير في الحديث عن إنجاز أدركه نظام السيسي أو قرار صعب أقدم عليه. رائحة النفاق التي تزكم الأنوف، وغياب أي استعداد للمحيطين به لسماع رأي مخالف أو انتقاد، جعلا الناس تعزف عن الاصطفاف إلى جوار صحافيين موجهين وإعلاميين أكثرهم منافقون، ورجال سياسة وبرلمانيين تخلوا عن واجبهم في تصويب السلطة، وردعها إن اقتضت الضرورة. أيام مبارك والمجلس العسكري، كان الكاتب الحر يخاف على نفسه وأهله من أن يهاجم النظام. اليوم صار نفس الكاتب يخاف على قلمه وشرفه ومصداقيته من أن يثني على النظام، حتى ولو كان يستحق ذلك أحيانا. المسؤول الأول عن أزمة العقول وغيابها في مصر هو الحكم، من رأسه حتى قاعدته. رجال السلطة قادوا نظامهم إلى أن وجد نفسه وحيدا دون سند من مصداقية عند الناس. حلقة الوصل بين الأنظمة والشعوب، المتمثلة في الإعلام المهني، مفقودة اليوم بسبب ضيق صدر النظام وثقافته في الاعتقاد بأن غلق المجال العام ضروري لتفادي انفجار آخر. لكن يفوّت القائمون على هذا النظام أن غلق الساحة وخنق الحريات وتحجيم الفكر هو الطريق الوحيد الذي لا بديل عنه نحو هذا الانفجار، الذي يبدو أن النظام يهرب منه كي يعود إليه! هذه الفلسفة تكاد تتطابق في كل أوجه الحكم، من الاقتصاد والعقيدة الأمنية والنظرة الاستراتيجية العامة للهدف من وراء مشاريع قومية عملاقة، وانعدام الثقة في غير العسكريين، إلى انحسار تأثير مصر في المنطقة. كل هذه الخلافات مع رؤية النظام الحاكم اليوم ينبغي أن تكون منطلقا للاشتباك مع الحكم، لكن ليس الاشتباك مع الأمة. كلها خلافات في تفاصيل التوجه والمسار، نابعة من داخل عصر التغيير، وليست خلافات على العودة إلى ما قبله، سواء عقلية مبارك في إدارة البلد، أو فوضى الإخوان المسلمين ورغبتهم الملحة في تغيير “شفرة وراثية” ظلت لآلاف السنين محددا رئيسيا لهوّية المصريين.الظرف يبرر الاختيار ترشح الفريق سامي عنان باب للفوضى كان يجب إغلاقه. كل من يعرف شيئا، ولو ضئيلا، عن الجيش يعلم أن عنان من أكثر الفاسدين على الإطلاق. لم يكن عنان ضابطا عاديا، بل كان مقربا من الرئيس الأسبق حسني مبارك بحكم موقعه كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة. رؤية عنان للحكم تكاد تكون متطابقة مع رؤية مبارك. هذه الرؤية لم تقدم شيئا يذكر لمصر ولا شعبها طوال أكثر من 30 عاما من “الفرص الضائعة”. ثلاثون عاما من الفساد والركود وزيادة معدلات الفقر والجهل والمرض وعدم القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية والصعبة. هذه الرؤية ظلت حاكمة خلال العامين اللذين تبعا الثورة، وكان عنان فيهما يقوم عمليا بمهام نائب رئيس الدولة. انضمام المستشار هشام جنينة والدكتور حازم حسني إلى حملة عنان يحمل تناقضا عميقا لتاريخهما في معارضة مبارك ورجاله. رغم موقعهما المتقدم في النضال ضده، صار نظام مبارك اليوم هو “طريق الإنقاذ” الذي يبحث عنه خصومه. حسني من أكثر المعارضين شرفا ووطنية، وجنينة هو رمز لمحاربة الفساد في مصر. لكن منذ متى كانت الاستعانة بالفاسدين طريقا نحو القضاء على الفاسدين؟ ولماذا لا يتعلم الناس من درس الإخوان المسلمين، ودرس 30 يونيو أيضا، بأن التحالفات الانتخابية هي تحالفات ظرفية لها مدة صلاحية تنتهي بانتهاء الغرض منها؟ ثمة غياب للقدرة على إدراك أن شرعية الحكم في مصر قائمة على معاداة الإخوان المسلمين. هذه الشرعية لا تنطبق على السيسي فقط، ولكنها تنسحب أيضا على أي رئيس مقبل، حتى يقول الناس كفى! توظيف الإخوان سياسيا والعودة إلى تدجينهم عبر اتفاقات أمنية على حصص برلمانية مسبقا، واستخدامهم كفزاعة معلبة من أجل البقاء في السلطة درس دفع المصريون كلفة باهظة لتعلّمه. مشكلة عنان أنه لم يصبر قليلا حتى يستطيع الحصول أولا على مقابل من الإخوان. سرعة عقد التحالفات مع الإسلاميين، خصوصا في أوروبا، يراها كل من يعرف التنظيم الدولي للإخوان وأذرعه. الغضب الرسمي تجاه عنان قائم على وقائع شعر الجيش من خلالها بـ”خيانة” من أحد قادته السابقين. لكن ليس هذا كل شيء. الانقسام داخل الجيش أكثر ما يقلق العسكريين في مصر تاريخيا. المؤسسة العسكرية لا تقبل أن تقف خلف مرشحين من أبنائها في وقت واحد. إقصاء أحمد شفيق عبر عقد صفقة سياسية معه، وتوقيف العقيد أحمد قنصوة واستدعاء عنان، انعكاس لتصرف حاسم اقتصر على العسكريين فقط، ولن ينسحب على أي مرشح مدني قد يتقدم بعد انسحاب خالد علي أمس. الجيش يريد منح فرصة للسيسي لإكمال مشروعه أولا، دون أن تنعكس أي خلافات سياسية على قواعده داخل المعسكرات أو على قادته. لكن تحجيم الدعم الذي يحظى به السيسي وقصره على صفوف الجيش فقط ليس صحيحا. رغم كل القرارات الصعبة التي اتخذها خلال فترته الأولى، مازال السيسي “المرشح” يحظى بشعبية متماسكة عند قطاعات كبيرة من المصريين. تأثير الإصلاحات الاقتصادية القاسية على القاعدة الفقيرة في مصر لم يكن هيّنا. ثمة طبقات سحقت بأكملها، وطبقات أخرى تحاول أن تتشكل وسط تفاعلات حادة تعتمل بين ثنايا المجتمع ومكوناته. رغم ذلك مازال الكثير من المصريين يرون في السيسي الحاكم القوي الصريح الوطني والصادق في ما يقول وما يفعل، دون تصنّع أو رياء، ومن غير تبجح أو مخاتلة أو تعقيد. هذه الحقائق، التي مازال كثيرون منا لا يدركونها وسط صراخنا كمعارضين، أظهرتها مقارنة بسيطة مع عنان. ربما يصح الآن القول إن خطوة عنان بإعلان ترشحه كانت من مصلحة السيسي، وستمثل له رصيدا في صناديق الانتخاب. هل هذا يعني أن السيسي سيفوز بنسبة تأييد مماثلة لانتخابات 2014؟ بالطبع لا! في النهاية الناس ينظرون إلى فترة الرئيس الحالي باعتبارها مرحلة انتقالية. قد يزعج ذلك السيسي، لكنها الحقيقة. أي اعتقاد بأن الثورة المصرية، التي بدأت في 25 يناير 2011 انتهت هو تفكير ساذج، لا يدرك حقائق التاريخ أو مكرهاته. دور السيسي واقعيا أقرب إلى مرحلة حكم تورغوت أوزال، الذي تولى رئاسة الوزراء في تركيا منذ عام 1983 وحتى 1989، ثم أصبح رئيسا حتى عام 1993. وضع أوزال الأسس التي بنى عليها لاحقا رجب طيب أردوغان نهضة تركيا. وظيفة السيسي أيضا هي تهيئة مصر وتسوية أرضها الوعرة لرئيس لاحق يقود قفزة اقتصادية واجتماعية حقيقية. سواء أدرك النظام الحالي أبعاد واقعه ودوره أم لم يتمكن من إدراكها، فمسار التاريخ حتمي، لا أحد يستطيع تغييره. على مصر أن تقبل ثمن ثورتها، وأن تحافظ على وجودها، حتى نكون قادرين في مراحل لاحقة على الاتفاق أو الاختلاف كما نحب مع أنظمة الحكم القادمة، بدلا من أن نكون منشغلين في البحث عن وطن. كاتب مصريأحمد أبو دوح
مشاركة :