الصحافة الورقية لن تندثر كليا، لكنها لن توضع تحت أبواب المحامين بعد ولن تُوزّع على متقاعدي المقاهي، فالموبايل مثلا اختصر كل شيء.العرب وارد بدر السالم [نُشر في 2018/01/25، العدد: 10880، ص(14)] يتغير إيقاع الحياة بسرعة مذهلة وتتغير معه الكثير من التقانات العلمية والتكنولوجية وتتطور إلى عصر إلكتروني ساحر بسرعته وخدماته وحركيته الدائبة المثمرة، بما يشي أن عصر الإلكترونيات هو الرابط المركزي في الحياة العامة، والثقافية منها بوجه خاص، وهو العصر الذي أخذ حيزه الواسع في مرافق الحياة وكما يسمّيه الأميركي توفلر بـ”الثورة الثالثة” بعد الثورتين الزراعية والصناعية على التعاقب. عصر الصحافة الورقية في خطر، هكذا نقرأ. فالصحافة الإلكترونية باتت تنافس صاحبة الجلالة وتأخذ مداها الواسع في المجتمعات، وباتت أحبار الصحف اليومية تجف إلى حد ما لتحل معها أحبار إلكترونية لا رائحة لها تقريبا، فهي بَصَرية في الغالب تعتمد الصورة وحدثها، وهذا الأثر الجديد هو الحقيقة الجديدة التي يجب أن نتقاسمها ونقبل بها تماشيا مع عصر الصورة الصحافية والحدث الآني الذي لا يتأخر، بمزاحمة أكيدة من الفضائيات التي تختصر المشاهد اليومية بلمح البصر في سرعات قياسية لا نشك فيها كثيرا. لكن هل سنفتقد رائحة الأحبار والورق؟ وهل نفتقد خشخشة الجريدة بين أصابعنا؟ وهل ستتغير المانشيتات بحروفها الكبيرة التي اعتدناها في قراءة الجريدة؟ عشنا عصر الصحافة الورقية بالتفصيلات الكثيرة المعروفة، وقبلنا عاشت أجيال متعاقبة في هذا العصر الفذ وهو عصر تشكّل في أعقاب الثورة الصناعية في أوائل القرن السابع عشر حينما -وقتها- كانت المشروعات العلمية والتقنية متخطية الزمن لتقفز بالحياة من طور زراعي فيه بدائية كبيرة إلى عصر العمل والتأمل والصناعة، وكانت من نتائجه الآلة والطباعة والجريدة الورقية التي ما تزال وسيلة من وسائل الاتصال اليومي بالجماهير في كل مكان وكانت إحدى الملامح الثقافية والحضارية للبلدان. لكن عصر الجريدة؛ بالرغم من كل التقنيات والوسائل الطباعية المستحدثة؛ بات محاصرا منذ الألفية الثانية التي شهدت الثورة الإلكترونية عندما جاءت بوسائل اتصالات متعددة حرة، مفتوحة، بلا رقابة حكومية، ليكون عصر الجريدة في خطر حقيقي أمام هذا الزحف الإلكتروني السريع؛ وهذا أمر لا خيال فيه بعدما استحوذت الميديا وكل وسائل الاتصالات المرئية والمقروءة وعصر الصورة المباشرة على كل شيء، ليتحول الزمن إلى أزرار صغيرة ولحظات برقية حتى يتحول العالم إلى خبر وصورة. وبعد أن كان التلفزيون محليا وهامشيا ودوره محدودا أصبحت الفضائيات برصيدها البشري العالمي تختصر الحياة بلحظة واحدة، وبالتالي فإن الصحيفة الورقية أمام هذه التحولات في ثورة الإلكترونيات أصبحت الحلقة الأضعف في هذا الخطاب العولمي فائق القدرة على التواصل والاتصال. سنفتقد الجريدة التي توضع تحت الباب مع ساعي البريد الذي يوزعها بدراجته الهوائية كل صباح، ونفتقد حبر أخبارها وبياض ورقها أو سمرته، وكان مقتنو الصحف آنذاك من الذين يوصلها لهم ساعي البريد نخبة من المحامين والأطباء والأكاديميين، مثلما سنفتقد جرائد الأكشاك التي يهرع إليها المتقاعدون مع فنجان القهوة أو قدح الشاي في المقاهي الشعبية التي تحفل بها مدننا الصغيرة والكبيرة، وهذا أمر حتمي أمام مدّ الإلكترونيات الذي يأتينا كل يوم بشيء جديد ويعلن إنجازاته الفريدة لتطويع الحياة الصحافية والثقافية بما يجعلها ميسّرة حتى لو افتقدنا فيها مزاج الأحبار ورائحة الورق وانتظارات الصباح وأخبارها وتقاريرها المتعددة. الجريدة التي كانت توضع تحت الباب صارت أمامنا صورة على شاشة الموبايل الصغير، والجريدة التي كانت تزيّن الأكشاك تحولت إلى شريحة ضوئية مضغوطة، وروائح الأحبار والورق الأسمر لم تعد مجدية كثيرا في زمن العولمة الإلكترونية وهي تقفز قفزة عملاقة وتقطع الأشواط الطويلة ليكون كل شيء في متناول الناس بعيدا عن الحكومات والسلطات والبرلمانات المخدرة بالشعارات. الحياة هي كل ما سيأتي. والثقافة بمختلف تسمياتها هي جزء من الحياة، والصحافة الورقية لن تندثر كليا، لكنها لن توضع تحت أبواب المحامين بعد ولن تُوزّع على متقاعدي المقاهي، فالموبايل مثلا اختصر كل شيء. كاتب عراقيوارد بدر السالم
مشاركة :