د. إدريس لكريني أفرزت الانتخابات التشريعية الألمانية الأخيرة، التي جرت بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2017، نتائج أربكت المشهد السياسي بالبلاد، عكستها التعقيدات والإشكالات، التي رافقت المفاوضات والمشاورات الرامية إلى تشكيل تحالف حكومي في مستوى التحديات المطروحة داخلياً وإقليمياً ودولياً. وكما هو الشأن بالنسبة للتحولات السياسية، التي عرفتها دول أوربية عدة؛ كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، خلّفت هذه الانتخابات تراجعاً ملحوظاً بالنسبة للأحزاب التقليدية، وبخاصة منها التحالف المسيحي الديمقراطي بقيادة (أنجيلا ميركل)، الذي حاز فوزاًَ نسبياً؛ حيث تراجع بنسبة خمسة في المئة، رغم حصوله على حوالي 35 في المئة من أصوات الناخبين، ونفس الشيء بالنسبة لحليفه السابق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي حصل على حوالي 20،8 في المئة من الأصوات، وتراجع بما يقرب من الثمانية في المئة، بما جعل قيادته تقرّ بالهزيمة، وترى في الأمر رسالة من الناخب تستوجب العودة لصفوف المعارضة. وفي مقابل ذلك، شهد «حزب البديل من أجل ألمانيا» صاحب التوجهات اليمينية المتطرفة تقدماً كبيراً؛ بحصوله على حوالي 13 في المئة من الأصوات؛ حيث تبوأ المركز الثالث، متجاوزاً بذلك عدداً من الأحزاب الألمانية العريقة، كما هو الأمر بالنسبة للحزب الليبرالي وحزب الخضر وحزب اليسار. تحظى المشاورات الرامية لبناء تحالف حكومي، باهتمام إقليمي ودولي كبير، وهذا أمر طبيعي إذا استحضرنا قوة ألمانيا الموحدة، التي تقود اليوم الاتحاد الأوروبي إلى جانب فرنسا، ووجود أكثر من أربعة ملايين ونصف مسلم مهاجر داخل البلاد، علاوة على حالة الترقب والحذر التي خلّفها دخول حزب البديل من أجل ألمانيا إلى البرلمان. تعثّرت المفاوضات التي أطلقتها ميركل لتشكيل الحكومة؛ نتيجة مجموعة من العوامل؛ بسبب وجود خلافات جوهرية بين عدد من الفرقاء المعنيين بهذه المشاورات حول ملفات الهجرة واللجوء والإصلاحات الضريبية، ما دفع رئيس الدولة (فرانك فالتر شتاينماير) إلى مناشدة مختلف الأحزاب والفعاليات السياسية إلى الإسراع بتجاوز حالة الأزمة وتشكيل الحكومة.حملت هذه الانتخابات رسائل واضحة بالنسبة لعدد من الأحزاب السياسية التقليدية، في علاقة ذلك بضرورة تطوير الخطاب والسياسات؛ لمواجهة القوى اليمينية المتطرفة الصاعدة، ويحمّل الكثير من الألمان ميركل وسياساتها المختلفة، مسؤولية التراجع الذي لحق بالاتحاد المسيحي خلال هذه الانتخابات، ما عقّد مأموريتها في تشكيل الحكومة، وجعلها في وضع صعب في مواجهة مختلف الفرقاء المعنيين بهذه المفاوضات.وتراهن ميركل، التي راكمت على امتداد السنوات الأخيرة تجربة وازنة مكنت ألمانيا من تبوؤ مكانة اقتصادية متميّزة على الصعيدين الأوروبي والدولي، على السرعة في تشكيل تحالف حكومي يضمن لها ولاية رابعة، في مرحلة مفصلية بالنسبة لألمانيا، في ارتباطها بالإشكالات الكبرى، التي تثيرها ملفات الهجرة، ومواكبة مفاوضات (البريكست) المتعلقة بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لا شك أن حالة الانتظار، التي طالت أكثر من اللازم، تفرض التعجيل باختيار المدخل الكفيل بتجاوز هذا المأزق، ويبقى تشكيل الحكومة في إطار توافقات مرنة هو الخيار الأقل كلفة مقارنة مع الاكتفاء بحكومة تصريف الأعمال، التي لن تستطيع اتخاذ قرارات صارمة في مرحلة حبلى بالتحديات، ونفس الأمر ينطبق على تشكيل حكومة أقلّية تترأسها (ميركل)، أو إعادة الانتخابات من جديد، وهو الخيار الذي لا تحبّذه الكثير من النخب السياسية في البلاد، بالنظر إلى إمكانية تمدّد حزب البديل من أجل ألمانيا، وتعزيز مكانته داخل البرلمان من جديد.ويرى هذا الأخير في ولوجه للبرلمان وسيلة للضغط على ميركل، ولتغيير توجهات ألمانيا بصدد عدد من القضايا الكبرى كالهجرة واللجوء؛ وهو ما أفرز سيلاً من الدعوات المحذرة من الدخول في أي ائتلاف حكومي مع هذا الحزب، الذي يدرجه الكثيرون ضمن ما يعرف ب«النازية الجديدة». لقد بنى هذا الحزب حملته الانتخابية الأخيرة على شعارات لا تخلو من تجييش عاطفي، ركّز فيها على قضايا الهوية والأمن، مع تصاعد الهجرة وطلب اللجوء نحو أوروبا بشكل عام وألمانيا على وجه الخصوص، منتقداً بذلك سياسة الأبواب المفتوحة التي تنتهجها (ميركل) بإعلانها عن استقبال حوالي مليون طالب لجوء.كما حذّر منذ ظهوره عام 2013 من أسلمة المجتمع، ولعب على استغلال عنصر الخوف من التطرف والإرهاب، مذكراً بالعمليات المسلحة التي شهدتها بعض الدول الأوربية كفرنسا وبلجيكا وبريطانيا في السنوات الأخيرة، معتبراً أن الإسلام لا يشكل بالمرّة جزءاً من ألمانيا، متنكّراً في نفس الوقت لعدد من الإشكالات الحقيقية التي تواجه المجتمع الألماني، وما يتصل بها من معضلات اجتماعية وعلى رأسها مشكلة البطالة. بدأت الآمال في الآونة الأخيرة تنتعش مع الاتفاق المبدئي المبرم بين التحالف المسيحي الديمقراطي الذي تقوده ميركل والحزب المسيحي الاجتماعي بزعامة (هورست زيهوفر) والحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة (مارتن شولتز) بشأن تشكيل الحكومة، وهو التحالف الذي يحظى بمباركة عدد من التيارات والنخب المحافظة والاشتراكية، ورغم أن بعض المراقبين في ألمانيا يعتقدون أن الأمر يتعلق بتحالف طارئ ومرحلي تغيب فيه الرؤية الاستراتيجية، كونه جاء تحت ضغط التهويل من تبعات الخيارات البديلة الأخرى، فإن توافق الأطراف بشأن الملفات الخلافية الكبرى، من شأنه الإسهام في بناء تحالف متين في مستوى التحديات الراهنة وانتظار المواطن الألماني، وبخاصة بعد موافقة الحزب الاشتراكي الديمقراطي على بدء مفاوضات رسمية في هذا الإطار، غير أن ذلك سيضيّق حتماً من هامش المناورة أمام ميركل، ما يعني أن السياسات الألمانية المتعلقة بملفات الهجرة واللجوء ستشهد تراجعاً تحت ضغط الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومطالب حزب البديل من أجل ألمانيا، وتوجّه عدد من النخب المحافظة داخل حزبها أيضاً. drisslagrini@yahoo.fr
مشاركة :