مع بداية العام 2018 تقف مصر على مفترق طرق، فمن جهة يتوقع صندوق النقد الدولي معدل نمو جيد قدره 4.5% للسنة المقبلة، كما أظهرت سلسلة من الإصلاحات الصارمة مثل تخفيض الدعم وقيمة العملة استعدادا للتصدي للتحديات الاقتصادية، لكن بالمقابل تواجه مصر تحديات هائلة تتمثل في استمرار عدم الاستقرار في سيناء، وارتفاع معدل البطالة، ومخاوف المستثمرين حول مسار المستقبل في البلاد. فمن أجل تشجيع الصادرات والاستثمار الداخلي، قامت الحكومة في عام 2016 بتخفيض حاد في قيمة الجنيه المصري وصل إلى النصف تقريبيا، وقد استفاد المصدرون المحليون من ذلك وباتت مصر أكثر جاذبية للسياح الدوليين، وهو ما أنعش الاقتصاد إلى حد ما وخفض العجز في الحساب الجاري في البلاد، لكن هذه الخطوة أدت بطبيعة الحال إلى تضخم كبير. تمكنت الحكومة المصرية خلال العام الماضي من تحقيق بعض النجاحات في السيطرة على التضخم، ولكن الزيادات في الأسعار لا تزال تأكل المداخيل المتواضعة للمواطنين، وارتفعت أسعار المستهلك في نوفمبر الماضي بنسبة 26% مقارنة مع 30.8% للفترة ذاتها من العام الماضي، واستمرت أسعار المواد الغذائية الأساسية في الارتفاع بسرعة، واضطرت الحكومة مجدا لزيادة أسعار الفائدة من أجل تخفيف حدة التضخم وهذا ما أثَّر سلبا على الاقتراض من جانب الأعمال التجارية، وعلى النمو الاقتصادي العام. وهكذا يمكننا أن نرى كيف تميل الصورة الاقتصادية في مصر إلى أن تكون «خطوة إلى الأمام، خطوتين إلى الوراء». على أي حال، لا يمكن لتلك الإصلاحات الاقتصادية مهما كانت إلغاء حقيقة أن العامل الأساسي الذي يعيق الاقتصاد المصري هو عدم الاستقرار السياسي، ويتجلى ذلك بشكل واضح في قطاع السياحة، حيث نفَّرت مجموعة من التقارير السلبية عن الإرهاب والاضطرابات الملايين من الزوار المحتملين لشواطئ مصر الجميلة ومواقعها التاريخية. إن خفض قيمة الجنيه قد يجعل من مصر وجهة سياحية أكثر شعبية من خلال أسعار أرخص، ولكن ليس عندما يخشى السياح من المخاطرة بحياتهم. وبالمثل في دولة شهدت نوبات من التغيير السياسي «الثوري»، يشعر المستثمرون على المدى الطويل بالقلق الدائم من أن التغيير الجذري للظروف ربما يسبب فقدانهم كل شيء، ومع ذلك، شهد العام الماضي بالفعل تحسنا في عدد السياح ومستويات الاستثمار. ولذلك يجب أن تكون الأولوية هي مواصلة تشجيع الثقة الدولية باستقرار مصر على المدى الطويل. لقد كان التحدي الرئيسي الذي واجهته جميع الحكومات المصرية هو كيفية توفير فرص العمل لمجموعة كبيرة من الشباب الخارجين من المدارس والجامعات كل عام، وظل معدل البطالة الرسمي في مصر ثابتًا في السنوات الأخيرة عن مستويات 12% تقريبًا، ويشكل الشباب 80% من هذا الرقم. يمكن القول إن نوبات الاضطرابات منذ عام 2011 قد تأججت بشكل كبير من قبل أعداد هائلة من الشباب القلقين بشأن مستقبلهم والمكافحين من أجل العثور على فرصة عمل مهما كانت، وهذا يخلق حلقة مفرغة لهذه الأمة، لأن البطالة والحرمان من الشباب يزيدان من احتمال حدوث اضطرابات سياسية، الأمر الذي يسبب بدوره أضرارًا طويلة الأجل بالاقتصاد. فكيف تستطيع مصر الهروب من هذا الفخ نحو دائرة افتراضية من الاستقرار الطويل الأجل والنمو الاقتصادي والازدهار العام؟ نحن نعتقد خطأً أن الثورة الفرنسية 1789 حدثًا قائمًا بذاته قاد فرنسا إلى مرحلة سياسية جديدة، لكن الواقع هو أن العام 1789 كان مجرد بداية لسلسلة طويلة جدا من الانقلابات والتغييرات العنيفة في القيادة السياسية، أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الناس، وهكذا اكتسبت فرنسا سمعة سيئة بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي استمر حتى القرن العشرين. وخلال القرن الماضي، اكتسبت دول مثل اليونان وتركيا وعدد كبير من الدول الأفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية سمعة مماثلة لتصبح مرتعا للانقلابات والثورات وعدم الاستقرار، حيث انه بمجرد القضاء على الثقافة السياسية التقليدية، يفقد كل توافق الآراء حول كيفية تنظيم الأمة، وتصبح الدولة مثل الكرة يجري قذفها من فصيل إلى آخر، كل منها لديه أفكار مختلفة تماما حول الحكم. نحن نرى ذلك جليًّا في تونس، الدولة التي من المفترض أن تشكل نموذجا لـ«الربيع العربي»، لكنها تعاني الآن مرة أخرى من مظاهرات وأحداث شغب ذات تأثير سلبي على الاقتصاد. تتحمّل سلطات القاهرة مسؤولية توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لأكثر من 100 مليون مصري، جنبًا إلى جنب مع مواجهة تحدي الخروج من هذه الحلقة المفرغة من عدم الاستقرار، ومع التحسن الحذر في الأداء الاقتصادي خلال العام الماضي إلا أن جميع المكونات الضرورية موجودة لمصر لتأخذها إلى منعطف حاد أكثر سوءًا إذا ظهرت مشاكل في المستقبل القريب. ويتمثل التحدي في كيفية تحويل القوى العاملة الضخمة في مصر من عبء إلى مكافأة، من خلال تحسين مستويات التعليم، والحفاظ على فرص العمل في القطاعات الرئيسية، ووضع مصر على طريقها لتصبح الوجهة السياحية الأولى في الشرق الأوسط وأفريقيا. يجب التعامل مع الجماعات المتطرفة بشكل حاسم، ولا بد من توجيه أذهان الشباب نحو العمل والازدهار في المستقبل، وليس نحو الآخرة والمذاهب العقائدية المنحرفة لتنظيم القاعدة وداعش. خير تفعل الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي عندما تواصل النهوض بدورها في عدم التخلي عن مصر، وضمان عدم تصدريها مرة أخرى للأيديولوجيات المتطرفة والميول الراديكالية والانقسامات إلى دول عربية أخرى، وإذا دعمنا توجه مصر نحو ثقافة سياسية ناضجة ومستقرة، فإنها يمكن أن تكون محركا لخلق فرص العمل والازدهار الاقتصادي، وملجأ سياحيًا ومركزًا للثقافة وتعزيز الوحدة العربية.
مشاركة :