لندع هنا كل الصخب الدائر من حول هذا الفيلم ومبدعه جانباً، ولنلتفت إلى الفيلم ذاته. فهو، ولا بد من قولها منذ الآن، تحفة سينمائية كبيرة تأتي في هذا الوقت بالذات لتلقي الضوء، في كلاسيكية تكاد أن تكون غامرة، ليس فقط على حقبة باتت وراءنا من التاريخ الأميركي الحديث، بل فيما هو وراءها ومن خلالها، على بعض التيمات الأكثر خطورة وراهنية اليوم، وفي مقدمتها، ولنقل هذا أيضاً هنا منذ البداية طالما أنه الشق الأكثر بروزا من المسألة برمّتها: الصحافة ويقال اليوم: الإعلام، المرأة كموضوع من ناحية، وكذات من ناحية أخرى، وأخيرا القضاء الذي بات يتحول بالتدريج من سلطة ثالثة في الدول الديمقراطية إلى مجرد دائرة في الدولة قد تؤخذ قرارتها كوجهة نظر بعدما كانت تطلع كمسلّمات. و «ذي بوست» فيلم يأتي في هذا الزمن بالذات ليكون، في ناحية منه إن لم يكن أساساً، تحية لتلك العناصر الثلاثة. ومن هنا قد يبدو لنا من الإنصاف أن نتوقف مطولا عند هذا الفيلم الكبير المشغول برهافة تقنية نادرة في أيامنا هذه وبأسلوب لا يخلو من تشويق يكاد يكون هيتشكوكيا يُستغرب بالتأكيد في عمل يتحدث عن حكاية تاريخية باتت معروفة. لكن أليس هذا هو سرّ السينما وسحرها؟ أليس هذا ما عودنا عليه سبيلبرغ، لا سيما في أفلامه التاريخية التي يستحوذ فيها على التاريخ ليقول الراهن في شكل ليس معطى لكثر من السينمائيين؟ شبح ساكن البيت الأبيض إذاً، هناك شبح يحوم بالتأكيد في فضاء «ذي بوست». وهذا الشبح هو بالتحديد ما يعطيه راهنيته. لكن لهذا الشبح اسماً محدداً: دونالد ترامب. ولنستعد هنا، بشكل مختلف ما قلناه أول هذا الكلام. فنحن نعرف، ومنذ أُعلن ترشيح هذا الأخير لرئاسة الولايات المتحدة، أن الأمر اعتبر مزحةً أول الأمر وقال كثر، ولا سيما في الصحافة الأميركية أنه من غير المعقول أن يصل إلى البيت الأبيض شخص من هذا الطراز لا يكف عن شتم المرأة وتحقيرها، وفي الوقت ذاته عن التهجم على الإعلام الذي ينقل كلامه ويفضح ماضيه وبخاصة في مجال إساءة تعامله مع النساء. لكنه وصل، وربما بفضل مواقف عديدة منها هذه المواقف بالذات التي يبدو أنها راقت لتلك الأميركا العميقة التي تشبهه وتشبه كل الفاشيين في العالم. ثم بعد أن وصل، اكتشف أن ثمة قضاءً في بلاده لا يوافق على كل ما يتخذه من قرارات، في وقت وقفت فيه الصحافة، بما فيها تلك المرئية والتي سيشتمها بالاسم تنتقده في شكل لاذع، ثم راحت شهادات النساء ضده تتوالى. وهكذا، بسلطته كرئيس وبقوة شعبويته، راح ساكن البيت الأبيض الجديد يخوض معركة مثلثة. وكان لا بد من التصدي له. وهنا، حتى ولو أن حياة فيلم «ذي بوست» منذ وجوده كفكرة ثم تصويره وإنجازه فعرضه، تبدو سباقة إلى حدّ ما على وصول ترامب إلى الرئاسة، ما يجعل حديثنا عن الفيلم نوعا من لوي عنق التاريخ، يمكننا أن نثني على الفيلم على أي حال زاعمين أنه حدس بما سوف يحصل. ترى أوليس من مهام الفن في علاقته بالواقع، أن ينظر إلى الأمام؟ مهما يكن، حتى وإن كان ترامب قد أوصل تحقيره الصحافة والقضاء والمرأة تدريجاً، إلى أقصى ما يمكن لمبدع أن يحتمله، فإن المعركة ضد الثلاثة كانت بدأت منذ زمن. ومنها خاصة المعركة المفتوحة ضد الإعلام. تمهيد لووترغايت إذاً، ربما كان الأمر صدفة وربما كان حدسا، ليس هذا هو الجانب الأهم في الموضوع. الجانب الأهم، هو في منطلق سبيلبرغ الذي سيقول إنه على ضوء المستجدات، أوقف مشروعين آخرين له ليحقق «ذي بوست»، ما يساهم في إعطاء فيلمه راهنيته. لكن بعد كل شيء، عمّ يتحدث هذا الفيلم؟ ببساطة، كما تحدث «كل رجال الرئيس» قبل عقود من هذا الفيلم الجديد الذي يحمل النسق ذاته، عن فضيحة ووترغايت ودور «النيو يورك تايمز» في كشفها ما أسقط الرئيس نيكسون، ها هو «ذى بوست» يعود الى ما قبل ووترغايت بسنوات، ليتحدث عن تلك الفضيحة الأخرى التي أتت فضيحة ووترغايت لتغطي عليها، ومهما يكن، فإن سبيلبرغ لا ينسى ووترغايت حيث نراه يختم «ذي بوست» بمشهد يمهد للفضيحة الجديدة قد يبدو مقحماً على الفيلم، لكنه لعبة حاذقة بالتأكيد: «فضيحة أوراق البنتاغون» التي تدور حول تقرير سري في ألوف الصفحات تمكن موظف سابق في وزارة الدفاع من تصويره ليوصله إلى «نيويورك تايمز» فتبدأ هذه بنشر فقرات منه هو الذي يكشف تواطؤ ما لا يقل عن أربعة رؤساء أميركيين متعاقبين، في التغطية على بديهية كان لا بد من الاستجابة لها ما كان من شأنه توفير حياة عشرات الألوف من الشبان الأميركيين الذين كانوا يُرسلون الى المذبحة في فيتنام ليعودوا في أكفان وتوابيت. كان هذا فحوى التقرير الذي وُضع بناء على طلب من روبرت ماكنامارا وزير الدفاع في ذلك الحين. غير أن لا هذا ولا رؤساؤه عملوا بما كان يقتضيه، فتواصلت المذبحة الأميركية في فيتنام. ومن هنا حين باشرت «نيويورك تايمز» نشر التقرير، ثم قررت «ذي بوست» استئناف نشره إذ فُسّر المنع القضائي للنشر بأنه يعني «نيويورك تايمز وحدها، ثارت ثائرة السلطات الأميركية من ناحية بسبب ما يقوله، لكن من ناحية أخرى لأنه يكشف عن أكاذيب السلطة الأميركية. استخدام التاريخ المعروف نعرف أن هذا جزء من التاريخ معروف ويمكن التعامل معه، كما الحال في عشرات الشرائط الأميركية التي فضحت حرب فيتنام وأكاذيبها ودمويتها، لكن الجانب الآخر من الموضوع سوف يبدو، بين يدي سبيلبرغ، أكثر أهمية بكثير: فالفيلم سيتحول هنا من العام إلى الخاص، ليصبح، من ناحية تصويراً بديعاً لعالم الصحافة في تفاصيله وتاريخه المجيد كما في تصوير التنافس المهني البديع بين الصحيفتين الأميركيتين الأكبر، وليصبح تمجيداً لدور الأفراد في صناعة السياسات والمجتمع، ثم تصويرا بالغ الدلالة لدور المرأة الأميركية، من خلال الدور الذي تلعبه السيدة غراهام (ميريل ستريب رائعة ونحو أوسكار جديدة في تاريخها المهني البديع؟)، حين تجد نفسها أمام التهديدات الحكومية مجبرة على اتخاذ قرار حاسم تقف فيه على حافة الهاوية، هي التي كانت تُعتبر قبل ذلك مجرد سيدة أعمال ورثت الصحيفة الكبرى من والدها ثم من زوجها (ترى أفلا يمكننا هنا ربط الدور الذي تلعبه السيدة غراهام بالنهوض المدوّي للمرأة الأميركية منذ ذلك الحين تحديداً؟)، وأخيراً تصوير الدور الحاسم الذي يلعبه القضاء الأميركي والمحكمة العليا خاصة، ضد السلطات مناصراً الصحافة في سعيها لنشر التقرير على رغم الحظر والتهديدات. أعداء الحرية إذاً، هذه هي المعارك الثلاث الرائعة التي يخوضها هذا الفيلم الذي لعب فيه توم هانكس دور رئيس التحرير المقدام بن برادلي إلى جانب ميريل ستريب وعدد من ممثلين آخرين تمكّن المخرج معهم، وبسرعة قياسية كما يبدو، من تحقيق فيلم يبدو استثنائياً في هذا الزمن الأغبر، فيلم يعيد الاعتبار إلى حرية الرأي ودور الصحافة ومكانة المرأة في زمن يبدو فيه كل هذا وكأنه يتلاشى تحت وطأة فقدان للبوصلة أقل ما يمكن قوله أن مبدعاً مثل سبيلبرغ عرف كيف يعيد ضبطها... ولهذا نراه يغيظ كثراً من أعداء الحرية والمرأة والصحافة والإنسان، من الذين هم حلفاء طبيعيون لدونالد ترامب وأمثاله حتى وإن كانوا لا يعرفون ذلك.
مشاركة :