مازال فضاء القراءة يعتمد المعايير الذاتية في الانتقاء، بالرغم من العود الذهبي للسرديات في هذا العصر، فإن مزاج القارئ المتسلط يتحكم بشكل مجحف مع النص، وربما يقذف الكتاب من الأسطر الأولى لعدم التعاطي الإيجابي مع الأفكار أو اللغة أو البناء.العرب خضير فليح الزيدي [نُشر في 2018/01/27، العدد: 10882، ص(13)] إن كان القارئ ممددا في فراشه، أو جالسا على مكتبه مستمتعا بقراءة كتابه المنتخب مع رائحة القهوة، أو متأملا دخان سيجارته في لحظة طقسية منتخبة، أو ربما كان مسترخيا بمقعد في القطار المنطلق أو حتى في الطائرة، فالقراءة هي القراءة في كل الأمكنة والفضاءات، هي اللازمة الحياتية المعاصرة. هذا الرأي بات لا ينطبق كثيرا على خصوصيات القراءة الحديثة، وهي إذ تجنس القارئ وتفكك ماهيات التلقي وخلق عنصر التواصل السري بين المؤلف والقارئ. لم تعد القراءة بالنسبة إلى القارئ النخبوي طقسا محببا، فالنخبوي هو نتاج منظومات القراءة والنظرية المعرفية التي تختص بعنصر الخلق المرادف للنص. بل هي الواجب اليومي الذي لا يمكن الفكاك منه. حيث لا تدخل خاصية انتقاء الكتاب في هذا الطقس وفق النظريات والمناهج النقدية الحديثة وموجهاتها الثقافية، بل تدخل وفق الجوع المعرفي الذي يتم فيه اشباع الحاجة العصرية للتواصل مع العالم المعرفي والثقافي. لقد حدث الشرخ الهائل الذي مزق نظرية المثلث الذهبي لنظرية التعاطي التواصلية، “القارئ- المؤلف- النص” في نظرية ما بعد الحداثة، حيث تناثرت أضلاعه واختلّت النظرية التواصلية للقراءة، وعادت النظرية القرائية للنظر بفردية مطلقة إلى القارئ كونه صاحب السلطة الوحيدة أمام النص. القارئ- المؤلف- النص، تلك هي النظرية الكلاسيكية في التواصل ثم جاءت النظرية البنيوية لتعلن عن موت المؤلف برفع أحد أضلاع مثلث التواصل، ولم تكتفِ النظريات الحديثة “التفكيكية” في الوقوف عند تهشيم ما تبقى لهذا المثلث الذهبي، عندما ذهبت لهدم الظلعين المتبقين، والإبقاء على دكتاتورية القارئ، وتسيّد سلطته على النص. لا يخفى على أحد أن القارئ المحترف، الذي يختلف كثيرا عن القارئ العام أو الهاوي، فالأول له القدرة الاختزالية في هضم زمن القراءة بأقل من زمن القراءة لدى القارئ الهاوي، حيث تعمل معظم الحواس معا للخروج من النص بوعي وتأويل وتماه بحيث تتبلور سلطته على النص في إبداع جديد، حتى وصل إلى مرتبة القارئ الإبداعي الذي يكتشف النص الأدبي بطريقة جديدة تتيح له فيها مسارات التأويل لقراءة النص المنتج من خلال القراءة الواعية. من هو القارئ الذي يتاح له ما لا يتاح لغيره وضع تاج السلطة على النص؟ هل هو القارئ العام الذي يأتيه الكتاب بالمصادفة، او ربما يجده متروكا على مقعد قطار أو رحلة طائرة أو في ملعب لكرة القدم او في عيادة طبيب الأسنان أو عند حلاق الشعر؟ أم هو احترافي القراءة الذي يبحث في النص عما تبثه اللغة السرية أو الإشارات الرمزية أو الأفكار غير المعلنة؟ القارئ المحترف هو الذي يبحث في نظريات القراءة الحديثة التي تختزل الزمن بتبنيه لنوع من أنواع تعددية شكل القراءة من القراءة التشجيرية إلى قراءة إحداثيات الصفحة والتركيز على نقطة التقاطعات، وصولا إلى القراءة الفوتوغرافية وتلك هي الأحداث التي تدخل فيها العين لالتقاط صورة ما لكل صفحة ثم خزنها في الذاكرة كمحتوى كمي يمكن العودة إليه وقت ما يشاء صاحب السلطة- القارئ. فيما قامت نظرية القراءة الحديثة بتحديد المعايير والأسس الفائقة للقارئ الواعي، ذلك المتذوق لمسارات النص وكيفية التعامل مع مسارات النص. هذه العملية ليست بالسهولة بمكان، وهي إذ تتكامل في الغرب حيث نسبة القراءة اليومية عالية، قياسا بنسبة القارئ في بلدان الشرق، فمازال القارئ الشرق أوسطي يتأثر بذائقة الآخرين ويذهب ليقتني الكتاب الذي اختاره الأصدقاء أو من يمتلك معايير المرجعية الثقافية. لم نصل -بالرغم من العودة السريعة إلى القراءة- إلى الأسس الصحية لأجواء القراءة النافعة التي تخلق الوشائج مع الكاتب. مازال فضاء القراءة يعتمد المعايير الذاتية في الانتقاء، بالرغم من العود الذهبي للسرديات في هذا العصر، فإن مزاج القارئ المتسلط يتحكم بشكل مجحف مع النص، وربما يقذف الكتاب من الأسطر الأولى لعدم التعاطي الإيجابي مع الأفكار أو اللغة أو البناء أو ربما التعقيد والعمق في تدفق الأفكار. كاتب عراقيخضير فليح الزيدي
مشاركة :