قراءة في كتاب رزا أصلان "الله" - تاريخ بشري

  • 1/27/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في كتابه "الله - تاريخ بشري " يعكس رزا أصلان، الحائز على المرتبة الأولى في قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتّاب مبيعاً، رحلته الروحية الخاصة على تاريخ تطور الديانات وفهم الإنسان للذات الإلهية عبر العصور، وعلى الرغم من تعهده في المقدمة بأن يكون الكتاب تحليلاً موضوعياً لظاهرة "شخصنة" الذات الإلهية عبر التاريخ البشري دون محاولة التعرض لموضوع وجود الله باعتباره خياراً شخصيا ًلا يعتمد على إثبات مادي، فإنه يخلف وعده في الفصل الأخير من الكتاب ويسهب في الحديث عن حتمية وجود الله ووحدانيته، وإن كان من منطلق صوفي وعرفاني بحت. محور الكتاب إذن هو لماذا وكيف حاول البشر إلحاق صفات ومشاعر إنسانية كالغضب والرضا والغيرة بذات إلهية واحدة أو تجسيدها في آلهة متعددة؟ يبتدئ الكاتب -في سياق سرد وتحليل تاريخ الروحانية في المجتمعات القديمة- بجولة داخل مجموعة من الكهوف الأوروبية تحوي رسوماً يزيد عمرها عن أربعين ألف سنة، ويستنتج من تحليلها بأنها تمثل رموزاً دينية تعكس نوعاً من الإيمان بآلهة تمتزج فيها عناصر الطبيعة بصفات الإنسان، ولدى مقارنة هذه الرسوم بأخرى مشابهة لها عبر العالم يخلص إلى أنها تعكس وجود عقائد دينية مشتركة بين شعوب الأرض ربما نشأت منذ فجر الإنسانية، ليس هذا وحسب، بل إنه يرى أن هناك من الأدلة ما يدعم أن مثل هذه العقائد الدينية كانت موجودة لدى الأجناس الإنسانية غير البشرية المنقرضة أمثال إنسان النياندرثال. ولكن كيف نشأت القناعة بوجود الله (أو الآلهة)؟ ثم ما الذي دفع الناس لمحاولة إسقاط صفاتهم البشرية عليها؟ يجيب أصلان بأن الشعور الديني مرتبط بشكل ما بهيكلية ووظائف الدماغ (وقد ذكّرني هذا الطرح بتفسير تشومسكي لنشأة اللغة حين اعتبر أن بنيتها التحتية مؤسَّسٌ لها في الدماغ البشري، فهي بالتالي جزء من إنسانية الإنسان)، ويسهب أصلان في شرح آليات عمل الدماغ المعنية بهذا الأمر، ومنها ظاهرة استشراق أو إسقاط ملامح بشرية على التشكيلات الطبيعية العشوائية، إضافة لما يسمى "نظرية العقل" التي تنص على أننا كبشر نرى ونفهم الآخرين وكأنهم أنفسنا أو بعبارة أخرى نعكس ذاتنا على الآخرين، وإذا دمجنا هذين المفهومين مع قناعة البشر بأن لهم أرواحاً تعمر أجسادهم، فمن السهل تخيل كيف رأى البشر الأوائل ملامح بشرية في الأشجار والصخور والغيوم، وافترضوا أن لها أرواحاً مثلهم وانطلاقاً من نظرية العقل أسقطوا مشاعرهم الإنسانية المختلفة على هذه الكينونات المتخيلة، ولم يمر زمن طويل حتى أعطوها صفة القداسة وربطوها بالظواهر الطبيعية التي لم يتمكنوا من تفسيرها. تاريخياً يعتبر أصلان أن إنشاء معبد "غوبلكي تيبي" في جنوب شرق تركيا منذ أكثر من 12 ألف سنة يمثل مرحلة مفصلية في تاريخ تطور الحضارات والأديان، وخصوصاً كونه قد حصل قبل أكثر من 2000 سنة من تحول البشرية من الصيد والجمع إلى الزراعة، ويجادل بأن الاستقرار البشري في مستعمرات سكنية ثابتة لم يكن نتيجة لانتقال الناس لاقتصاد الزراعة، كما هو شائع، بل على العكس من ذلك فوجود مثل هذا المعبد الضخم في تلك المرحلة المبكرة يثبت أن الاستقرار البشري (الديني) حول مثل هذه المعابد هو ما حدا بالمجموعات البشرية للتحول لاقتصاد الزارعة الذي يخدم بشكل أفضل حاجات المجتمعات المستقرة أصلاً، وحين تطورت المجتمعات الزراعية لمدن ثم إلى حضارات، تطورت معها علاقتها بالآلهة فاتخذت كل مجموعة آلهة خاصة بها، وانعكس نشوء نظام طبقي داخل هذه المجتمعات على الآلهة ذاتها، فتم تنصيب إله ما كبيراً عليها، وتدرجت مراتب الآلهة الأخرى تحته، إضافة لذلك فقد اعتبرت كل مجموعة كبير آلهتها حامياً لها ووصياً عليها، وكان انتصارهم أو هزيمتهم انتصاراً أو هزيمةً له. وفي مرحلة لاحقة وضمن ظروف مختلفة ظهرت دعوات لعبادة إله واحد؛ ففي مصر الفرعونية فرض الفرعون أخناتون عبادة إله الشمس وحده من منطلق أن وحدة الإله تعكس وحدة المملكة، وفي اليونان دعا الفيثاغوريون لوحدة الله من منطلق منطقي رياضي باعتبار أن الرقم واحد هو الأساس لكل ما بعده، وفي فارس أطلق زرادشت دعوته التوحيدية لعبادة رب النور، والتي انتهت لاحقاً بثنائية النور والظلام، وفي أرض بابل حيث سُبيَ عدد من كهنة العبريين حاول أولئك تبرير هزيمتهم -وبالتالي هزيمة إلههم "يهوا" على يد إله البابليين "مردوك" - بالقول بأن هناك إلهاً واحداً فقط، وأنه قد تخلى عنهم بسبب معصيتهم له، ومن الجدير ذكره أن العبريين، وخاصة قبل السبي، جمعوا عبادة "يهوا" مع عبادة آلهة كنعانية أخرى، ومن أحضان المجتمع اليهودي نشأت الدعوة المسيحية التي تحولت لشكل من الثلاثية الإلهية، وتلت ذلك دعوة الإسلام التي نشأت في شبه الجزيرة العربية، والتي كان التوحيد هو العنوان الأساسي لها. بطبيعة الحال واجهت الدعوة للتوحيد مقاومة شديدة؛ حيث إنها تتناقض بصورة أساسية مع فكرة إسقاط المشاعر الإنسانية المتعددة والمتناقضة مع مفهوم ذات إلهية واحدة متجانسة، وفي مكة بالتحديد قاومت قبيلة قريش دعوة الإسلام الناشئة لا لشيء إلا لأنها تناقض مبدأ تعدد الآلهة في حين أن اقتصاد مدينة مكة مبنيّ على هذا التعدد، لكن عقيدة التوحيد انتصرت في النهاية، وقد كان من المتوقع أن يقضي مبدأ التوحيد على فكرة تجسيد الإله باعتبار أن "الله" ليس كمثله شيء، إلا أن كثيرين - حتى ضمن إطار طبقة الفقهاء - تمسكوا بالتجسيد بشكل أو بآخر، ومن هذا المنطلق أصر من سُمّوا بالسلفيين على تفسير العبارات القرآنية التي تتحدث عن يد الله وعينه واستوائه وغيرها حرفياً وليس مجازياً، كما فعل غيرهم. في الفصل الأخير ينتقل أصلان من مقام المحلل لمقام الواعظ، ويكشف عن قناعاته الروحية والمبنية على فهمه الخاص لفكرة وحدانية الله المطلقة، فهو يرى أن الفصل بين المخلوق والخليقة يتناقض مع مبدأ التوحيد، وهذا ما يعرف عند الصوفيين بوحدة الوجود، ويستعين أصلان في التعبير عن هذه الرؤية بحوارت الصوفييْن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي (تماماً كما في رواية قواعد العشق الأربعون لإيليف شفق)، ويقدم رؤية فلسفية شبه مطابقة لطروحات الفيلسوف سبينوزا "البانثيية"، وكذلك لرؤية الحلاج الذي قال: "ما تحت الجبة إلا الله" بمعنى أن الذات الإنسانية ما هي إلا امتداد للذات الإلهية. في الختام وعوضاً عن أن أقدم رأياً خاصاً حول الكتاب، سأورد رأي الكاتب والمفكر الدكتور وليد سيف الذي أرسله لي حين تحاورنا حول الكتاب ومؤلفه. يقول الدكتور وليد سيف: "هذا الشخص قد عاد للإسلام شكلاً وهو في حقيقته عرفاني غنوصي، فهو ممن يفصلون بين الروحانية بوصفها تجربة كونية تقطع حدود الخصوصيات الدينية والثقافية وبين الدين وطقوسه، وهو يرى أن الدين ليس أكثر من لغة للتعبير عن التجربة الروحية، هذه هي التجربة التي يجري الترويج لها عالمياً الآن وتنتظم عليها كل التيارات الباطنية الشرقية واليونانية الفيثاغورية الجذور: القول بالإله المحايث لا المتفارق المتعالي المنزه، أي أن الوجود على تنوعه وتعدديته يجسد في مجموعه الروح الكونية الواحدة التي نسميها الله، فالموجود هو عين الواجد". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :