من ماسح أحذية إلى رئيس أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، كان المشوار السياسي الطويل للرئيس البرازيلي السابق، لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، مليئاً بالإنجازات، فقد انتخبه 53 مليون برازيلي عام 2002، وخرج من المنصب بنسبة تأييد تصل إلى 80%، لكن حظوظه تبدو متراجعة الآن، مع قرار محكمة الاستئناف الأخير المتخذ بالإجماع، والذي يؤكد الإدانة الموجهة إليه بالكسب غير المشروع وغسل الأموال. ويعتبر القرار أكبر انتكاسة قانونية لدا سيلفا، الذي حكم البرازيل من 2003 إلى 2010، إذ إنه يلقى شكوكاً كبيرة على إمكانية ترشحه للانتخابات الرئاسية في أكتوبر، وقد ينهي عملياً حياته السياسية، ويضعه خلف القضبان لفترة طويلة، على الرغم من تصدره استطلاعات الرأي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويتخوف كثيرون الآن من أن يؤدي إبعاد لولا، الذي يواجه ست تهم أخرى، إلى اشتعال الغضب داخل نفوس الملايين من أنصاره مما يهز استقرار البلاد السياسي. فعلى الرغم من أن لولا لم يعد ذاك الدينامو السياسي كسابق عهده، إلا أن استطلاعاً للرأي أظهر في يوليو، أنه لا يزال مدعوماً من ثلث الناخبين في البلاد، فيما منافسه الأقرب، عضو الكونغرس اليميني، جير بولسوناروـ يحظى بتأييد 18% من الناخبين. وعلى الرغم من التدمير الذي لحق بشعبيته نتيجة للركود وفضيحة الفساد، يبقى دا سيلفا، بعمر 72 عاماً، بطل الفقراء بالنسبة إلى الملايين من البرازيليين، وكان صعوده إلى السلطة، ولم ينه المدرسة الإعدادية، مصدر إلهام لهم، وقد أحبه البرازيليون على برامجه الاجتماعية التي رفعت 30 مليون شخص من الفقر المدقع، كما على رفعه الحد الأدنى للأجور ومحاربته عصابات الشوارع في مناطق برازيل المفقرة. وخوفاً من زيادة حدة التوتر قبل صدور حكم الإستئناف، أغلقت السلطات الشوارع المحيطة بالمكان في مدينة بورتو اليغري الجنوبية، حيث حلقت المروحيات، وانتشرت عناصر الشرطة فوق أسطح المنازل. القضية حكم الإدانة بحق لولا دا سيلفا صدر في 12 يوليو الماضي من جانب القاضي سيرجيو مورو الذي حكم عليه بالسجن تسع سنوات ونصف، قبل أن تؤيد محكمة الاستئناف في المنطقة الرابعة، والمؤلفة من ثلاثة قضاة، بالإجماع حكم مورو ضد سيلفا في 24 يناير، مع إضافة سنتين وشهر على عقوبة السجن. وكان القاضي جواو بيدرو جبران نيتو أول المصوتين بين القضاة الثلاثة، وذهب أبعد من الإدانة الأصلية مضيفاً عقوبة السجن إلى 12 عاماً وشهراً، فوافقه الرأي القاضيان الآخران. تحدي القرار ومتحدياً القرار الصادر عن محكمة الاستئناف، ظهر دا سيلفا أمام أنصاره في ساو باولو بعد ساعات من صدور الحكم وأصر على براءته قائلاً: «أريدهم أن يقولوا لي ما هي الجريمة التي اقترفتها، تمت إدانتي مرة أخرى على شقة مزعجة لا أملكها». ونفى فريق المحامين كل التهم ضده، وقالوا إن الأدلة غير متوفرة أو تم تلفيقها، وإن دا سيلفا تتم ملاحقته قضائياً من أجل تشويه سمعته، ولمنعه من الترشح مجدداً، وأن القضية جزء من مؤامرة مدبرة من قبل نخبة البرازيل لإبقاء رئيس يركز على الفقراء بعيداً عن الرئاسة، مشيرين في سياق ذلك إلى انتهاك الحقوق الأساسية لموكلهم ومهددين بإحالة قرار المحكمة إلى لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. المعارضون من جهتهم، يقولون إن دا سيلفا وحزبه كانوا يديرون البلاد، فيما كانت فضيحة فساد واسعة تطيح بمليارات الدولارات من شركة "بتروباس" النفطية، وهي الفضيحة المعروفة بـ «كار واش»، والتي أطاحت لتاريخه برؤوس العديد من السياسيين والمديرين التنفيذيين في أكبر دولة في أميركا اللاتينية. تفاصيل القضية القضية التي قامت محكمة الاستئناف بمراجعتها أخيراً، تتعلق بشقة على واجهة بحرية في مدينة غوارويا في ولاية ساو باولو، تقدر بقيمة 1.1 مليون دولار، كان من المزمع أن تقدمها إحدى شركات الإنشاءات إلى دا سيلفا في مقابل الحصول على عقود من شركة «بتروباس» النفطية وفقاً لاتهامات الادعاء. ويقول المدعي العام موريسيو غوتاردو جيروم: «يشير عدد من الملاحظات الضريبية والشهادات والرسائل المتبادلة بين المديرين التنفيذيين إلى أن الشقة كانت معدة للرئيس السابق». من جهته، يقول دا سيلفا ومحاميه إن القضية غير منطقية، إذ إن الرئيس السابق لم يمتلك الشقة يوماً أو حمل مفاتيحها أو نام فيها، مؤكدين أن التهم حافزها سياسي ومفتعلة من قبل كارتيل. وكانت التحقيقات قد انطلقت في مارس 2014 على بعد بضعة أميال من الكونغرس البرازيلي مع اعتقال مالك محطة بنزين مشتبه بالرشوة. وقد أوصل خيط التحقيق في النهاية إلى الرئيس التنفيذي السابق لـ «بتروباس»، بالو روبرتو كوستا الذي توصل إلى مساومة مع المدعي العام، كشف فيها عن خطة للكسب غير المشروع. ومنذ ذلك الحين، فإن عشرات المسؤولين التنفيذيين والسياسيين عقدوا مساومات مماثلة يوافقون على الاعتراف بالذنب مقابل موافقة المدعي العام على خفض التهم. من الناحية القانونية، فإن إدانة تم تأييدها بالاستئناف تجعل دا سيلفا غير مؤهل للترشح، لكن بإمكانه استئناف الإدانة في المحاكم العليا. وفي النهاية، يعود القرار لمحكمة الانتخابات العليا بشأن المرشحين. وكان لولا يجول في البرازيل أخيراً ملهباً مشاعر المؤيدين بأسلوبه الفكاهي وسط حشود تحن لسنوات الازدهار لرئاسته، ومتحمسة لوعوده المناهضة للتقشف. وقد تحدى دا سيلفا قرار المحكمة مصراً على ترشحه في انتخابات أكتوبر الرئاسية رغم اعترافه بإمكانية إبعاده عنها. وأقسم على استئناف القرار، ومن غير الواضح متى سيودع السجن إذا ثبتت التهمة عليه. يرجح الخبراء أن يمنع من الترشح قبل أسابيع من الانتخابات. ويعرف أن لولا انتخب رئيساً للبرازيل لولايتين في عام 2002 و2006، وقد وُصف بين السياسيين الأكثر شعبية في تاريخ البرازيل. ووفقاً لبلومبرغ، كان الجميع في البرازيل ينتظر قرار محكمة الاستئناف الأخير بحق هذا النقابي العمالي السابق، سواء قاعدته الانتخابية في شمال شرق البلاد، أو النخبة والمستثمرين في ساو باولو الذين يخشى بعضهم من ألا يكون ملتزماً بما فيه الكفاية بالتقشف المالي لحكومة روسيف، وأن يكون قد قدم وعوداً إلى أقصى اليسار ليضمن التأييد له. ويعرف عن لولا أنه جاء إلى الرئاسة من خلفية عمالية نقابية، وفاز على برنامج يساري، لكن رحلة هذا اليساري كانت تتجه يميناً منذ فوزه في الانتخابات عام 2003، يقول المحللون، حزبه الذي انطلق وسط المناطق العمالية الصناعية بات يدعو بحلول 1992 إلى «التطور الرأسمالي مع توزيع للثروة»، وحاول لولا عقد تحالفات وطنية كأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وكان غائباً من خططه طرد الشركات الأجنبية كما حال فنزويلا تحت حكم الرئيس السابق هوغو شافيز، ويقول مراسل «بي بي سي» ستيف كنيغستون: «قد يكون قلبه يطرق لليسار، لكن رأسه يقول له إن الاستثمار الأجنبي مهم لنمو البرازيل». لكن المحللين يقولون إن شيئاً تغير في البرازيل في الفترة الأخيرة، حيث ازداد الاستقطاب الاجتماعي، تاركاً فسحة صغيره للوسط السياسي الذي هيمن لأكثر من 20 عاماً.
مشاركة :