يشعر الروائيّ بصيغة ما أنّه يعمل ضدّ سطوة الزمن، وما قد يفرضه من تقييد مضمر عليه، بحيث يجد نفسه مرتهنا لقوّة خياليّة عليه الإذعان لها والبحث عن إرضائها.العرب هيثم حسين [نُشر في 2018/01/29، العدد: 10884، ص(15)] تحفظ الكتابة إرثا إنسانيّا متراكما عبر الزمن، تنتشل المنسيّ والمهمل من زوايا النسيان والإهمال، تثبتها لتكون علامات على درب التاريخ الطويل، التاريخ الذي لا يضيع بين ركامه أيّ إرث محفوظ. والرواية تكون سجلّ الروائيّ المتمرّد على الزمن. هل يبحث الروائيّ عن الحقيقة في عمله؟ هل يبحث عن إنصاف في حاضره ومستقبله أم أنّه مشغول بنسج رواياته من دون استجداء أيّ أحكام مهوّلة في تعظيمه؟ هل يعبّر عن روح عصره حين يلملم تفاصيل الأشياء والأحداث المحيطة به سابرا أغوارها ومتعمّقا في دقائقها؟ هل تراه يستعين بالغموض أو التعقيد أو التبسيط لتقديم رؤاه في القضايا التي يعالجها؟ كيف يمكن لرواية أن تكتسب قوّة لمجابهة الزمن والصمود أمام متغيّراته؟ يقول التشيكي ميلان كونديرا في كتابه “فنّ الرواية” إنّه في الماضي، كان يعتبر المستقبل القاضي الوحيد المختصّ في النظر بمبدعاتنا وأعمالنا. وإنّه لم يفهم إلّا متأخّرا أنّ مغازلة المستقبل هي أسوأ ضروب الامتثال، وأنّها تملّق جبان للأقوى؛ ذلك أنّ المستقبل هو دوما أقوى من الحاضر، إذ أنّه هو الذي سيحكم علينا. ومن المؤكّد أنّه سيفعل دون أيّ اختصاص يخوّله ذلك. ثمّ يستطرد قائلا “لكن إذا كان المستقبل لا يمثل قيمة في نظري، فبمن أربط نفسي: بالإله؟ بالوطن؟ بالشعب؟ بالفرد؟ جوابي صادق بقدر ما هو سخيف: لست مرتبطا بشيء سوى بتراث سرفانتس المحقّر”. وبالحديث عن روح الرواية والعصر يقول كونديرا: إنّ روح الرواية هي روح التعقيد، وإنّ كلّ رواية تقول للقارئ “إنّ الاشياء أكثر تعقيدا ممّا تظنّ”. إنّها الحقيقة الأبدية للرواية، لكنّها لا تُسمع نفسها إلا بصعوبة في لغط الأجوبة البسيطة والسريعة التي تسبق السؤال وتستبعده. كما يذكر في موضع آخر بأنّ روح الرواية هي روح الاستمرار، وأنّ كلّ مبدع هو جواب عن المبدعات السابقة، كلّ مبدع ينطوي على التجربة السابقة على الرواية، لكن روح عصرنا مثبت على الأحداث اليومية التي هي من الاتساع والضخامة بحيث تدفع ماضي أفقنا وتقلّص الزمان إلى الهنيهة الراهنة وحدها. تراث سرفانتس هو تراث الإنسانية جمعاء، لأنّ الرواية توثّق روح عصرها، وتسعى لنقل ما يمور فيه من متغيرات وصراعات تلعب دورها في صياغة المستقبل الذي يكون حكما مجهولا يتأمّل فيه المرء إنصافا منشودا، وغربلة لما قد تراكم من مخرجات الأزمنة المفضية إليه. يشعر الروائيّ بصيغة ما أنّه يعمل ضدّ سطوة الزمن، وما قد يفرضه من تقييد مضمر عليه، بحيث يجد نفسه مرتهنا لقوّة خياليّة عليه الإذعان لها والبحث عن إرضائها، من دون أن يستدلّ على بلورة صيغة مناسبة للإذعان والإرضاء. يكون التمرّد أقدر وأبلغ هنا، وربّما دربا من دروب احتلال مكان في ذاكرة المستقبل نفسها. كاتب سوريهيثم حسين
مشاركة :