بعد 40 عاماً على الإصلاح الاقتصادي والانبعاث القومي، لا يزال الحظ حليف الصين، وهي تمضي قدماً على سكة النجاح والتقدم. وبلغ النمو المحلي الصيني 6.9 في المئة على خلاف التوقعات الصينية والأجنبية. وتتعاظم قدرات جيش التحرير الشعبي الصيني ودقته، والبحرية الصينية أطلقت أول حاملة طائرات محلية الصنع. واستقطب مشروع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، السياسي، مبادرة حزام وطريق (الحرير)، الشركاء من أصقاع العالم كله- ومنهم حلفاء للولايات المتحدة مثل بريطانيا وكندا. وإلى وقت قريب، كانت أميركا قائدة العالم من غير منازع. واليوم، يفترض أنها دخلت مرحلة جديدة من تنافس «القوى العظمى»، وفق استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية الجديدة التي اعلنها وزير الدفاع، جايمس ماتيس. وفي الوثيقة الاستراتيجية هذه، تربعت روسيا والصين محل البعبع الخيالي والمفترض في التسعينات، أي أوروبا واليابان. ولكن جعبة روسيا خاوية من آفاق مستقبل اقتصادي، ولا رؤى جديدة، وناتجها المحلي هزيل قياساً إلى الناتج الأميركي، وهذا 12 مرة أضعاف الناتج الروسي، وفي وسع صنّاع الاستراتيجية الاميركية تجاهل الموازنة الدفاعية الروسية، فهي غير وازنة، على رغم أنها تقلق جيرانها الاضعف شأناً. وحال الصين مختلفة: فهي قوة عظمى واقعية تنافس الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. وحدد شي جينبينغ دوره: قائد عالم توجه دفته الصين. و «حلمه الصيني» يرمي إلى «انبعاث الأمة الصينية». وهذا الحلم يحمل رؤية تدعو إلى التعاون بين الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، مقرونة برؤية متحدرة من القرن السابق: العقيدة القومية العسكرية. وتزعم رؤية شي أن كفة بلاده، القوة العظمى، سترجح على كفة خصومها في التنافس بين القوى العظمى. ولكن المواجهة بين هذه القوى لم تقع. والصينيون يستسيغون متابعة تحصيلهم العلمي في أميركا على اجتياحها. وفي خطابه في 2015 بمجلس الأمن، التزم الرئيس الصيني بـ «بناء علاقات دولية جديدة قوامها تعاون ربح- ربح (لا خاسر فيها) ومستقبل مشترك يجمع بين البشرية... من طريق شراكات مع دول تتعامل معاملة الند». وفي الرطانة الروسية- الصينية، الكلام مفاده: عدم السماح للولايات المتحدة بإمساك المقاليد كلها. وكان كلام الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، أكثر مباشرة في مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007، حين ندد بـ «عالم أحادي... يغلب عليه سيد واحد، ويهيمن عليه حكم واحد»- أي أميركا. والدعوة إلى «مساواة سيادية»، هي ركن العقيدة الصينية والروسية في السياسة الخارجية. وفي 2016، اصدرت بكين وموسكو بياناً مشتركاً اعلنتا فيه التمسك بـ»مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية أو الخارجية». ولا يعتد بمثل هذا الكلام إذا صدر عن العاصمة الروسية. فروسيا دولة هشة داخلياً تتستر على هذه الهشاشة من طريق استعراض عضلاتها كلما سنحت فرصة. والصين أقوى، على المستويين الداخلي والخارجي. وهي البلد الوحيد في المعمورة المخول التمسك بالمساواة السيادية مع الولايات المتحدة. ولكن هل ترغب حقاً في مثل هذه المساواة؟ وعلى خلاف روسيا، الصين مندمجة في النظام الأميركي الاقتصادي والتعليمي والشبكات التكنولوجية. وسلسلة الإنتاج في القرن الحادي والعشرين تربط بين عمالقة الانترنت والمشاريع الرأسمالية في سيليكون فاليه من جهة، وبين مجمعي (الأدوات)، أي اليد العاملة المتدنية الكلفة، والمبتكرين في أمكنة مثل شينزين الصينية التي تعرف بـ»كاليشاينا» (سيليكون فالي الجديد: تولد الأفكار في السيليكون فاليه الأميركي بكاليفورنيا، وتبصر النور أو «تتجسد» مادياً في مصانع شينزين الصينية- وعددها يفوق عشرات آلاف المصانع). ولا ريب في أن آي فون يجبه منافسة قاسية في الصين، ولكنه حاضنة بيئة انترنت حيوية لمشاريع الصين الرامية إلى اقتصاد قاطرته الابتكار في 2020. ولا تنافس الصين الريادة الأميركية التكنولوجية، بل تأمل فحسب في حصة فيها. وفي 1868، بلغت أول بعثة ديبلوماسية صينية إلى الغرب، سان فرانسيسكو، على بُعد نحو 6 آلاف ميل إلى شرق بكين. وكانت الصين أقرب إلى كاليفورنيا منها إلى العالم الغربي. ورئيس البعثة هذه كان مندوب أميركا السابق، انسون بورلينغايم، الذي صار ديبلوماسياً صينياً. وحال الصين يومها مثل حالها اليوم، فأنظارها تتجه إلى الولايات المتحدة في الريادة الديبلوماسية وليس إلى أوروبا. وبعد أكثر من مئة عام، لسان حال كتّاب الشؤون الخارجية الصينية، من أمثال يان جزوتونغ وكين ياكينغ وزهاو تينغيانغ (وهؤلاء هم الأبرز في مضمارهم)، هو أن الصين ستقود العالم إلى نظام عالمي أكثر أخلاقية وإنسانية. وهم مولودون شأن شي جينبيغ خلال الحرب الكورية، وهذه في الإمكان وصفها بالحرب الصينية– الأميركية على كوريا. ولذا، ينظر هؤلاء، شأن الرئيس الصيني، إلى علاقات بلادهم بأميركا على أنها علاقات تنافس. ولكن، اليوم، يبرز جيل جديد من المثقفين الصينيين ممن يرون أن حال سان فرانسيسكو من حال بكين، كلتاهما أثير على القلب وفي منزلة المنزل أو الموطن. ويتابع حوالى 350 الف طفل صيني تعليمهم في الولايات المتحدة (وفي عدادهم كانت، إلى وقت قريب، ابنة شي نفسه). ولذا، احتمال هجوم الصين على الولايات المتحدة ونظامها السياسي– الاقتصادي، ضعيف في القريب العاجل. وتتعاظم مصالح النخب الصينية في النظام الاميركي، فأبناء الطبقة هذه هم من ابرز المانحين في كبرى الجامعات الأميركية، وهم يعرفون بـ «سائحي الإنجاب أو الولادة» ممن ينجبون أولادهم على الاراضي الاميركية، وينتخبون كاليفورنيا موئلاً لهم. وافتراض أن الصين قادرة على انشاء نظام عالمي جديد تكون هي محوره يستند إلى افتراض آخر: تواصل نموها السريع في الجيل المقبل أو الجيلين المقبلين. وهذا زعم ملحمي، ولكنه لا يضاهي ملحمية افتراض أن الجيل الصيني المقبل يحمل ذهنية الآباء الموروثة من الحرب الباردة. وإذا كان أبناء الجيل الصيني المقبل مثل نظرائهم الأميركيين، فشاغلهم الأبرز هو ولوج متجر التطبيقات، «آب ستور»، على الهواتف الذكية، وليس الهيمنة الجغرافية– السياسية. وعليه، ليست خشية أميركا من بروز عالم نواته صينية في محلها. * دارس اجتماعيات اميركي في جامعة سيدني، عن «واشنطن بوست» الاميركية، 25/1/2018، إعداد منال نحاس
مشاركة :