إنعام كجه جي: وفي العراق جوع؟

  • 10/19/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لفتت انتباهي، قبل أيام، عبارة للطاهي آلان دوكاس، قال فيها إن مشكلته تكمن في أن عليه أن يبتكر، باستمرار، أطباقا جذابة وتغري بالتذوق، لأن زبائنه هم، في الغالب، من الأثرياء الشبعانين والمتخمين. إن «الشيف» الفرنسي الحاصل على 3 نجمات في دليل «ميشلان» لأفضل المطاعم في العالم، لا يقف وراء الفرن لكي يطبخ «الباميا والتمّن» لزبون جائع يلتهم الطبق ويمسحه بالخبز ويمصمص أصابعه. نحن نسمع البطلة، في الأفلام المصرية، تقول للبطل «عاملالك ملوخية بالأرانب حتاكل صوابعك وراها»، لكنني لم أُشاهد من يأكل أصابعه في آخر الوجبة. لذيذة هي المبالغة في كلامنا الدارج، لكن الفرنسيين الذين قدموا للذواقة واحدا من أشهر مطابخ الشعوب، تصوروا أن هناك مبالغة كبيرة في الإحصائية التي نشرت في الأسبوع الماضي عن التبذير في الطعام. إن العائلة الفرنسية المتوسطة العدد ترمي ما معدله 30 كيلوغراما من المأكولات في صفيحة القمامة، سنويا، وأن 7 كيلوغرامات منها تكون في أغلفتها ولم تفتح. وتبعا لذلك، فقد خصصت الدولة يوما وطنيا لمحاربة هذا البطر. إنها مشكلة كل المجتمعات المرفهة ولا أقول المتقدمة، وقد قدرت المنظمة العالمية للتغذية حجم الأطعمة التي تنتهي في حاويات المهملات بأكثر من مليار وثلث المليار طن، سنويا، وفي المقابل هناك 800 مليون شخص يعانون من الجوع ونقص التغذية في العالم. وطبعا، فإن الأمم المتحدة لا تنوي أن تطعمهم من القمامة، لكن منظماتها تسعى لتقليص الرقم إلى النصف مع نهاية العام المقبل. وفي الشهر الماضي صرّح مدير المنظمة الدولية للغذاء بأن محو الجوع ليس مجرد حلم. وحتى إذا قسمنا كلام الأمم المتحدة على اثنين يبقى الحلم صعب التصديق. منذ بدء الخليقة، كان الجوع هو المحرك الأكبر للإنسان والحيوان، وعليه، فقد كان من أبرز الموضوعات التي دار حولها الأدب. ولشاعرنا الجواهري قصيدة رهيبة شهيرة يقول فيها: «نامي جياع الشعب نامي / حَرَسَتْك آلهة الطعام نامي فإن لم تشبعي / من يقظة فمن المنام نامي وسيري في منامك / ما استطعت إلى الأمام نامي على تلك العظات / الغرّ من ذاك الإمام يوصيك أن تدعي المباهج / واللذائذ للئام وتعوّضي عن كل ذلك / بالسجود وبالقيام نامي تريحي الحاكمين / من اشتباك والتحام». اللعنة على الاسترسال، فقد كنا في حديث الجوع والجياع وصرنا في هذا المجال، مع أن في القصيدة أبياتا أدهى. وقد كان من الحرام، أو هكذا تصورنا، أن يكتب شاعرنا بدر شاكر السياب في «أُنشودة المطر»: «وفي العراق جوع... ما مر عام والعراق ليس فيه جوع»، كيف تجوع بلاد تستلقي بين نهرين، ترقد على بحيرة من ذهب أسود، تتفيأ بسعف النخيل ويهدهدها حفيف السنابل؟ لكننا عشنا وشفنا. وكان مما رأينا طائرات عمودية تحلق فوق مهاجرين من الوطن إلى الوطن، تلقي للأولاد رزم الخبز والحليب المجفف وهم يطاردونها حفاة راكضين، واحدهم يدوس على الآخر. ومشكلة الحكاية معي أنها تجرّ الحكاية. وقد جال الكاتب النرويجي كنوت همسون في الولايات المتحدة الأميركية وعاد ليكتب رواية بعنوان «الجوع». وهنا، أرجو ألا يذهب بكم الظنّ إلى أنني أنتهز الفرص لكي أعلّق في عنق البلد البعيد كل المصائب التي حلّت وتحلّ بنا، إنها مجرد مصادفة هذه المرّة. أما همسون، الحائز «نوبل» عام 1920، فكان متخصصا في نقد الحياة المادية الأميركية التي خرّبت الروحانيات وجعلت العيشة لا تحتمل، كما سخر من ديمقراطية القوم هناك وعدها كذبة، أيكون ذلك هو السبب في أنه صار نازيا؟ دفع الكاتب النرويجي ثمن إعجابه بهتلر، وبعد هزيمة ألمانيا حوكم ووجهت له تهمة الخيانة وحُكم عليه بدفع غرامة باهظة، وللتحايل على إيداع الكاتب الشهير في السجن، زعمت سلطات بلاده أنه يعاني من تراجع في قدراته الذهنية وأرسلت به إلى مصحّ عقلي. وفي الذكرى الـ50 بعد المائة لميلاده سكّ البنك المركزي النرويجي عملة باسمه، ميدالية تكرّم مجنونا. في المصحّ، بين كوابيس المرضى، كتب صاحب «الجوع»، الرواية التي صدرت ترجمتها العربية عن دار «ميريت» القاهرية، خطابا مطولا يدافع فيه عن أفكاره بعنوان «على الدروب حيث ينبت العشب». هل ينبت شيء في أرض الجياع؟

مشاركة :