يبدو أنّه في العالم الناطق بالإنكليزية، يشعر القسم الأكبر من الناس، بالفضول والإثارة حيال الثرثرات التي تتناول مجريات الأحداث في مقرّ سكن حكّامهم، لا سيّما متى تعلّق الأمر بوصول شخص خارج جدّاً عن المألوف مثل ترامب إلى سدّة الرئاسة. وهكذا، سمح نشر كتاب «نار وغضب» بقلم مايكل ولف باستقطاب كمّ هائل من الاهتمام، وسط مزاعم تفيد بأن مؤلّف هذا الكتاب هو مراقب متمرّس سُمح له التسكّع قدر ما يشاء في أرجاء البيت الأبيض، وطرح الأسئلة، أو ببساطة الاستماع إلى ما يدور من أحاديث في محيطه. ويقال إنّ صفوفاً طويلة من الناس تشكّلت على أبواب عدد كبير من المكتبات، وشملت كلّ من أراد أن يحصل قبل الآخرين على نسخة من أصل مليون من الكتاب الصادر عن دار نشر هنري هولت في نيويورك. أمّا آخرون أمثالي، فاضطرّوا إلى الاكتفاء بسلسلة مقابلات وتعليقات وردود أخرى، وقد كتب بعضها الرئيس المثير للجدل شخصيّاً. يبدو عموماً أنّ الناس بمعظمهم وجدوا تماماً ما كانوا يبحثون عنه، إذ وجدوا عدداً لا يُحصى من الأمثلة عن رجل معروف بسلوكه الطفولي، وطباعه المحرجة، التي تُعتبر خليطاً من المزاجيّة وقلّة التعاطف مع الآخرين وغياب الشخصية الضرورية لأداء المهام الرئاسيّة، في حين رأى فيه آخرون مدافعاً شرساً عن الأميركيين المتواضعين الذين جلّ ما يسعون إليه هو اكتساب لقمة عيشهم بطريقة صادقة، في وجه تسريحات الموظّفين وتوافد المغتربين على نحو غير مشروع إلى البلاد، وهذا كلّه في سياق نقاشات واسعة النطاق في أرجاء البلاد حول مواضيع الموازنة الجديدة، وتخصيص الموارد الوطنية ووقع الاحترار المناخي العالمي والعلاقة بين الرجل والمرأة على خلفيّة سوء استعمال السلطة الجنسيّة من أمثال المنتج الهوليودي هارفي واينستين، وحتّى الرئيس نفسه، عندما كان يعرَف بأنّه رجل أعمال وعملاق عقاري ومنظّم مسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة السنوية، حيث تتمايل النساء الشقراوات في ملابس والبحر، إلخ... لكنّنا نعرف جيّداً أنّ نجاحاً من هذا القبيل لا يبقى على حاله. فمن جهة، تعرّض مؤلف «نار وغضب»، مايكل ولف، للهجوم الشخصيّ بسبب أساليب العمل التي اعتمدها، بما يشمل طبيعة إذن المرور الذي حصل عليه إلى البيت الأبيض، وصدقية الأمثلة العديدة التي أوردها، حيث نقل كلاماً عمّا «قاله فلان- قالته فلانة»، بالتالي، يصعب التصديق أنّه سُمح له المكوث في المكان بهذه البساطة، من دون أن ينتبه أحد لأمره، بينما كان يحمل في يده دفتراً أو آلة تسجيل. أمّا الأسوأ، على حدّ ما أورد زميل سابق لولف، فيتمثّل بإحدى أهمّ المزايا التي يتّسم بها هذا الأخير، وهي «منحه انطباعاً لآخرين بأنّه مطّلع على خصوصيّات الرئيس»، أو «قدرته على حض القارئ على الاعتقاد أنّه أمضى ساعات مطوّلة مع هذا الأخير، مع أنّه في الواقع، لم يمض معه أيّ وقت على الإطلاق»، وهذا كلّه وسط عدم خضوعه يوماً لأيّ تدقيق أو تأكّد من صدقيّة اقتباساته، بعكس ما كان ليحصل لو كان كاتباً في صحيفة يوميّة. يذكر أنّ الرئيس ترامب بنفسه أطلق حملة تودّد، ففتح أبواب البيت الأبيض أمام عدد كبير من السياسيين والمراسلين، وأعطى أجوبة صائبة أو خاطئة عن الأسئلة الموجهة إليه، وحوّر انتباه العموم عن أيّ إحالة إلى الصلات العديدة التي تجمعه بروسيا، متّهماً الأطراف التي أطلقت هذه الإحالات بشنّ حملات مغرضة وغير مسبوقة تاريخيّاً بحقّه. وقد أصبح فريق عمل ترامب أكثر احترافاً في إظهار مواطن قوّة الرئيس، بما يشمل مثلاً استمتاعه الواضح بإلقاء الخطابات أمام العموم، ومهارته بإقناع الحشود، وسط أدلّة واضحة على القوّة العسكرية الأميركيّة، مع تحليق قاذفات صواريخ أميركيّة في الأجواء مثلاً. وفي هذه الأثناء، تبقى أخطار كثيرة ظاهرة للعيان، لا سيّما التحقيق المستمر في شأن التأثير الروسي المزعوم في الانتخابات الأميركية عام 2016، ويجريه المحقق الخاص روبرت مولر، المعروف بشجاعته غير المسبوقة على طول مسيرته المهنية، وتفانيه في خدمة الشأن العام، وذكائه وصدقيّته. ويرى كثيرون أنّه يدافع عن أفضل مصالح الأمّة، وجلّ ما يتمنّونه هو أن يحمي نظام البلاد الانتخابي الثمين من التلاعبات الخارجيّة، بالتالي، من يجدر التصديق؟ طبعاً مولر، في مواجهة تملّق ترامب ومستشاره السياسي ستيف بانون الذي خسر كلّ صدقيّته. لا بد من الكلام أيضاً عن القيود المحتملة للسلطة الرئاسية، وهي كثيرة، لحسن حظ المحامين الدستوريين، مع أنه لم يتم اختبارها حتى الساعة. إلى ذلك، لا يمكن الرئيس التهرب من الواقع الذي يفيد بأنّ جلّ ما يفعله غضبه إزاء كتاب ولف هو زيادة مبيعاته، أو تجبّب الواقع الصريح الذي يفيد بأنّ رفع دعوى خاصّة ضدّ الناشرين، طالباً منهم تعويض عطل وضرر، سيتطلّب منه الكشف عن معلومات حول أصوله، وحول الضرائب التي قد يكون دفعها أو لم يدفعها على هذه الأصول، وهي معلومات لطالما رفض الإفصاح عنها. وأخيراً، وأكثر ما يريح الفريق المناهض لترامب، هو أنّه سيواجه صعوبات جمّة إن أراد الترشح لعهد رئاسيّ ثانٍ، لا سيّما أن كان عليه مواجهة مرشّح أهم من هيلاري كلينتون. وفي هذا السياق، يتّضح أن جو بايدن، نائب الرئيس السابق في عهد باراك أوباما، يبذل مساعي في هذا الاتجاه، ويُصدر في موازاتها كتاباً جديداً لإثبات نيّته. ولا بد من الكلام أيضاً عن الاستجابة الواسعة إلى الخطاب المتميّز الذي ألقته أوبرا وينفري، الشخصية التلفزيونية والكاتبة وفاعلة الخير، خلال احتفال «غولدن غلوب» في لوس أنجليس، حيث أشارت إلى أنها لو قررت الترشّح للرئاسة كأول امرأة سوداء عام 2020، فقد تتخطى جميع العراقيل. وسأنهي المقالة بملاحظة شخصيّة، وأفيد أنه بنظر شخص أمضى الجزء الأفضل من حياته على التعليم والكتابة، أراه من المثير جدّاً أن تباع ملايين النسخ من كتاب جدّي من قبيل «نار وغضب» في أيّام قليلة، بالنظر إلى أنّ ذلك يجدد آمال عدد كبير من دور النشر، وتجّار الكتب، والمؤلفين التائقين لتوسيع نطاق أعمالهم والاستمرار في إحاطة الرأي العام بمعلومات موثّقة. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
مشاركة :