«أبو عيد»، اسم لم يكن له وجود في السجلات الرسمية اللبنانية قبل العام 1996، لكنه يعود إلى لبنانيين يُطلق عليهم تسمية «عرب»، ولا يزال نصفهم محروماً من نعمة الحصول على الهويّة، رغم أنهم «لبنانيون منذ أكثر من 200 سنة»، كما يقولون. وبعض تفاصيل الحكاية تكمن في كون الدولة اللبنانية «منّت» على هؤلاء، منذ نحو خمسين عاماً من اليوم، بهويّات «قيد الدرس» تسهِّل تنقلهم على أراضيها، أما هم، فقد اختار القسم الأكبر منهم (نحو 500 نسمة) السكن في أحد سهول منطقة البقاع الأوسط، والتفرّغ للعمل في قطاعي الزراعة وتربية المواشي لدى أصحاب الأملاك. أما باقي التفاصيل، فتكمن في كون قانون الجنسية الذي صدر في العام 1996 منح الهوية اللبنانية لحوالي نصف «عرب أبو عيد»، وحرم النصف الآخر منها، دون مراعاة تقسيم العائلة الواحدة إلى قسمين، فأصبح أبو كامل وزوجته، على سبيل المثال، لبنانيَّين «منذ أكثر من عشر سنوات»، وفق العبارة التي تذيَّل بها بطاقة الهوية أو إخراج القيد الشخصي في لبنان، فيما بقي أبناؤهم الثمانية من حاملي هويّات «قيد الدرس»، مع ما ترتّب على هذا الأمر من حرمان في الحقوق، ولا سيما منها حقّ الطبابة على نفقة أي من الجهات الضامنة، وحقّ الدخول إلى المدرسة الرسمية من دون تعريف من قبل المختار، إضافة إلى حقّ تسجيل عقد الزواج في الدوائر الرسمية. «ختيارة محظوظة» وعلى خلاف من حرِموا نعمة الحرية في ربوع «سجن» مشرّع، يولدون داخله ويموتون، بلا حقّ رفضه أو الاستنفار عليه، تبدو ظريفة أبو عيد (75 عاماً) «ختيارة محظوظة»، وفق توصيفها هي، لكونها حصلت على الهوية اللبنانية حين «ما بقى من العمر أكتر مما مضى»، وتحديداً حين كانت قد طوت من عمرها 61 عاماً. ولا تنتهي قصة «الختيارة» ظريفة عند هذا الحدّ، إذ يحزّ في قلبها أنها أمّ لسبعة أولاد (3 صبايا و4 شباب)، حصل الكبير والصغير والبنات من أبنائها على بطاقات هوية، بينما حرِم شابان من هذه «النعمة»، واليوم «مرقت سنين ونحنا ناطرين الوعود.. وما في أي جديد». لكن «النعمة» أتت منقوصة، إذ تشير ظريفة إلى أن ابنها الكبير أحمد كان متزوجاً حين حصل على الجنسية، وكان له ولد عمره 10 أيام. ولدى صدور مرسوم التجنيس، ورد في هوية أحمد أنه أعزب، ما حرم ولده البكر من الجنسية، كذلك انسحب الأمر على بقية أولاده. ورغماً عن الواقع الذي تعيشه عائلتها، تحرص «الختيارة» على الاحتفاظ بالبطاقة «الغالية» داخل كيس خاطته من القماش، و«الكيس ما بيفارق صدري دقيقة».. تبتسم، وتسرح بنظرها إلى البعيد كمن يلملم أفكاره، وتقول: «أنا لبنانيّي عن جدّ.. وهيدا هوّي الإثبات»! مكتومو القيد «مكتوم القيد» مصطلح شهير في المجتمع اللبناني، يعني أن أي شخص لبناني يستحق الحصول على هوية لبنانية، إلا أنه حرِم منها لأسباب مختلفة. ورغم تعدّد هذه الأسباب، فالنتيجة واحدة: لا أوراق ثبوتية ولا شخصية قانونية. وبالتالي، فإن «مكتوم القيد» محروم من كل حقوقه التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية، وأولها الحق بالحصول على اسم وجنسية، والحق بالحفاظ عليها، إضافة إلى حرمانه من: الطبابة، الضمان الاجتماعي، التعليم، العمل، التملك، الانتخاب، الزواج، وحتى التنقل بحرية. وبحكم الوضع السيئ الذي يعيشونه في لبنان، يلجأ مكتومو القيد إلى ابتكار أساليب عيش تمكنهم من تحصيل الحد الأدنى من الحياة الكريمة. ويشير إحصاء قديم غير رسمي إلى أن نحو 80 ألف لبناني «غير مواطنين» بالنسبة للدولة، إذ هم «مكتومو القيد». وإذ يفتقر لبنان إلى إحصاءات رسمية مسحيّة لعدد مكتومي القيد اللبنانيين، تجدر الإشارة إلى أن الإحصاء الإداري الأخير المثبّت للجنسية اللبنانية تم عام 1932. وفي ظلّ قوانين وتشريعات مهترئة سكنها الدّهر وحسابات سياسية، يبقى مصير «عديمي الجنسية» مجهولاً وانتماؤهم ناقصاً تغطيه غشاوة ولا يلزِمهم بالواجبات الشرعية. وذلك، في ظل تواجد فئتين أساسيتين من هؤلاء: الفئة الأولى، وتعرّف بـ «مكتومي القيد»، وهي تشمل العدد الأكبر من عديمي الجنسية، وأفرادها لا وجود قانونياً لهم بتاتاً أمام القانون والسلطات، أما الفئة الثانية، فتعرّف بـ «قيد الدرس»، وهي فئة لها وجود قانوني وتتمتع ببعض الحقوق الأساسية، وأهمها الوجود القانوني، وبعض الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية، إنما ملامحها وتاريخها وحلولها ما زالت عرضة للتأويلات والتفسيرات المتعددة، وهي ما زالت «قيد الدرس» منذ عشرات السنوات وتتكاثر من جيل إلى آخر!
مشاركة :