نادر سراج (أستاذ علم الألسنيات في الجامعة اللبنانية)، أضاف إلى المكتبة العربية، ولهذا الاختصاص المعقّد والثري والجديد في حقل العلوم الإنسانية، كتاباً- دراسة، يجمع ما بين النظري والتطبيقي، وما بين التبسيط من جهة تسهيلاً للتوصيف، وإعلاءً لصعوبة الغوص في هذا الاختصاص من جهة ثانية، إضافة إلى مقدرة تُحسب له في الصبر على التفكيك وإعادة «تصويغ» الأفكار بلغة أكاديمية ورشيقة في آن، وفي «تصويب» نصوص الشعارات موضوع دراسته نحو «الإيجابية»، فاستطاع بمهارة النخل والغربلة والفرز أن يبقي لهذا الحَراك المدني مكانه في تواريخ الأحداث، لكنّ هؤلاء «الحَرَاكيين» لم يفلحوا في تجديد تواريخ احتجاجاتهم، وللمسألة نقاش لا ينتهي بين مؤيد ومشكِّك، بين تقييم وتقييم، ليبقى السؤال: أين هم هؤلاء المحتجون بشعاراتهم؟ وبماذا كانوا مختلفين عن المُحتجّ عليهم؟ ولماذا تقتصر حَرَاكاتهم على الموسمية؟ وأنَّى لنا أن نُحسِن الفرز من بين عشرين ألف جمعية وفقاً لتعداد مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي!...(الكتاب بعنوان «الخطاب الاحتجاجي- دراسة تحليلية في شعارات الحَراك المدني- صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- 368- بيروت). تعاطف سراج مع المحتجين، وكرّر «التمديح» لفعلتهم الاحتجاجية، ورأى أن الشعارات «أرست قواعد تأسيسية لخطاب اجتماعي مطلبي مُختلف تَجاوَز بمنطلقاته وأشكاله ومضامينه ودلالاته ومنشئيه أي خطاب احتجاجي آخر أو سابق» (ص124-125)! وأنها «ذكية وجريئة ولمّاحة» (ص17)، وأنها «نجحت في نقل سلطة صوغ القول الاحتجاجي من اليسار التقليدي إلى الجمهور العريض، ومن المناضل السياسي الأيديولوجي إلى أنموذج عصري وحيوي تمثّل في الناشط الاجتماعي» (ص16)، مع غمزه القليل لبذاءة بعض تلك الشعارات، وهو ما نوافقه على بذاءة بعضها «لأن اللسان ترجمان العقل» على ما قال الإمام علي بن أبي طالب، وله في أوصاف اللسان والمخبوء تحته ما يفيد علم الألسنيات لجهة مكانة اللغة والبلاغة والبيان، فالبذاءة في سنتي الاحتجاج المشار إليهما تناصفت مساحة مع الجدَّة في الشعارات والأقوال المُرتجلة. في خطته للدراسة (من تموز- يوليو 2016 إلى تموز 2017) استقرأ سراج 400 شعار «شكّلت قاعدة معلومات» (ص26) رفعتها جمعيات مجتمع مدني، وأبرزها في حراك 2015- 2016 «طلعت ريحتكم» و «بدنا نحاسب» في مسألة تراكم النفايات وتقصير الدولة بكافة قطاعاتها على معالجة هذا الأمر، مما يجعلنا نجدد تساؤلنا حول مسار هذه الاحتجاجات والجمعيات ونفوذها «الشارعي»، وما آلت إليه نفايات العام 2018 السابحة على شواطئ لبنان دونما لافتة احتجاج من هؤلاء، أو لثغة لغوية منهم تشي بقراءة جديدة؟ أما عن إصرار المؤلف على تمايزهم وقد ورد في أكثر من صفحة (112 و49 وغيرها) عن سابقيهم، وتحديداً اليساريين، فلا بد لنا من مساءلته عن هذا الاختلاف والتمايز: فهل هو بالمضمون وقد تشابه وما زال لجهة المطالب الإصلاحية والاجتماعية والاحتجاجية والشعاراتية ومكافحة الفساد، وكأننا لا نزال في سنوات ما قبل العام 1975؟ أم لجهة الشكل الخارجي في الملبس والسلوك وقد أفرد له سراج قراءة سيميائية وعصرية، مع العلم أن التطور المتسارع في الموضة أو السلوكيات الأكثر تحرراً تفرض أدواتها، وبالتالي لا تُحدِث تغييراً وإن كانت أدوات التكنولوجيا أيضاً ميدانها، سواء في النص والفكرة المطروحة أو في مضمون للشعار. فمن يتذكر المصري وائل غنيم على سبيل المثل؟ أو من يراهم سراج بأنهم «أثبتوا جدارة في ميدان التكيُّف الميديائي، واستحقوا بامتياز مرتبة نجوم المجتمع المدني الصاعدين بحكم ملاحقة الكاميرات لهم لحظة بلحظة» (ص100). اشتملت الدراسة على أربعة أقسام (وفي كل قسم فصول عدة) فالقسم الأول بعنوان «الدراسة اللسانية للشعارات أنموذج لرأب القطيعة بين النظرية وتطبيقاتها العملية»، وعالج فيها فصولاً بعناوين: «الأداة اللسانية تكشف عن المفتاح الحقيقي لفهم الخطاب الاحتجاجي»، و «المشروع البحثي وأهدافه»، و «متى انطلق الحَراك الشبابي من الناعمة إلى بيروت وكيف؟»، و «الأدوات الإعلامية منصّة للخطاب الاعتراضي»، وذلك بهدف «إخضاع عيّنات محددة مصطفاة من الحصيلة الشعاراتية التي تمخّض عنها الحراك لمبادئ الدرس اللساني وأدوات التحليل البلاغي»(ص47). والقسم الثاني بعنوان «الشعارات الاعتراضية بين التأصيل والإبداع» وتضمن فصولاً بعناوين: «مستويات العربية المعتمدة في الشعارات والهتافات» (ويشير هنا إلى إحصائه 190 أنموذجاً من اللافتات باللغة العامية تقابلها 159 باللغة الفصحى- ص113)، «الغرافيتي»، و «التضفير بين الخطابات»، كما حمل القسم الثالث عنوان «أيديولوجيا الساحات والميادين» وتضمن فصلين بعنوان: «الفضاءات الحضرية العامة قبلة للحَراكات»، و «دور منظومة الشيفرات في التحليل السيميائي للنص الشعاراتي- لبنان أنموذجاً»، في حين تضمن القسم الرابع وعنوانه «الدراسة البيانية والسيميائية للشعارات» عناوين الفصول التالية: شعارات الحَراك بين البيان اللغوي والتبيين السيميائي، هوية المكان وشيفرات اجتماعية حملتها نماذج شعاراتية مصوّرة، رسوم غرافيكية وشعارات تغازل التراث تعكرها تعليقات خارج حدود المألوف، وشعارات مناطقية رافضة الأمر الواقع البيئي، (وتضمّن هذا القسم قراءة ممتعة بيانية للشعارات من تشبيه واستعارة وكناية ومعنى التضمين إلى المحسّنات البديعية من سجع وجناس وطباق ومقابلة والتقسيم ومراعاة النظير، والتضمين والعكس والموازنة والتلميح ص180). وأخيراً، استخلاصات عامة، مع تقديم (ص11) للباحث عبد السلام المسدّي رأى فيها «أن الموضوع المُختار من «أخطر» الموضوعات وأندرها في أدبياتنا العربية الراهنة، فاللسانيات ما زالت منظوراً إليها كاختصاص موسوم بالشك في مردوده العملي»، لكن سراج «اجتهد في تجويد أدواته»، وهو ما أكده من أن هدفه «إظهار فاعلية علوم العصر: لسانيات اجتماعية، علم نفس اجتماعي، علوم اجتماعية، وسائطية أو ميديائية، إحصاءات، تقانة الاتصالات والمعلوماتية، في تمكين الباحث من رصد معطيات الخطاب العام وإخضاعه لمبضع التحليل اللساني وصنوه السوسيولوجي» (ص33). اجتهد سراج فأصاب في تمتين وترفيد اختصاص علم الألسنيات بحوافز نظرية جديدة، ولكن، يمكننا الإشارة إلى إحدى كبوات استنتاجاته في الاستخلاصات العامة، بقوله «إن أزمة النفايات وحّدت هموم اللبنانيين»، لنحيله على مستجداتها المنفلتة في الطرقات بلا معالجات لائقة ولا صراخ من الحراكيين القدامى أو الجدد، وإبقاء هذا «الكنز» في إطار المحاصصة بين أقوياء النفوذ. ومع هذه الكبوة في الاستنتاج أو التمني، لا يعود «لطرافة المجازات وبلاغة الصور علامة فارقة في مسار الحراك الشعبي اللبناني»، (ص250) أي تأثير، سوى ذاك الشعار المكتوب في ساحات الحراك وسط المدينة والمبهم في قصده، الدال في بذاءته: فليسقط حكم الأزعر! أما إذا كان «الدرج ما بينشطف من تحت»(ص237) وفقاً لواحدٍ من الشعارات المرفوعة، موظِّفاً «المصطلح التراثي في نقد سيميائي سهل التشفير للدلالة على أن الإصلاح ومعالجة الفساد لا يبدآن من القاعدة صعوداً إلى القمة» (ص237) كما يقول المؤلف، فإننا نقول أن الفرز المنزلي للنفايات- على الأقل- كثقافة وسلوك مدنيين يبدآن من تحت، كي لا نتماهى مع القول المأثور كما تكونون يولّى عليكم، أو كما في تعاكس المرايا وتقعراتها، أو في إطلاق العنان لشهيات القول، لا سيما أن الآلة الإعلامية تحتاج إلى تعبئة الهواء. أستذكر شعاراً كُتب على جدار في إحدى البلدات الشوفية في لبنان العام 1984 وفيه: لو لم ينسحب المارينز من لبنان لجعلنا من البيت الأبيض مكتباً للحزب التقدمي! * صحافية لبنانية.
مشاركة :