يقال إن المكان مهاد دائماً للذاكرة ومهاد أيضاً للمخيلة، فالمكان بما يحويه من دلالات وما يشي به من وجدانيات، يشكل في ذاكرة. الشاعر الحنين إلى المكان بكل تفاصيله، وبما أن المكان يتجاوز الحد الجغرافي الوصفي إلى ما يسميه باشلار: «سمات المأوى التي تبلغ حدَّا من بساطة، ومن التجذر العميق في اللاوعي فالمكان هو منطلق الشاعر ومنتهاه في تشكيل نفسية الشاعر» العلاقة بين الشعر والمكان علاقة عميقة الجذور ومتشعبة الأبعاد وعلاقة ليست سهلة ففي الشعر الجاهلي كان الشاعر يعيش على نظرية الموت والحياة والأمل والتشاؤم متجذراً بالإمكان، ونرى شاعراً آخر قد يصب على مكان ما طابعاً خاصاً فيحوله من مسكن خرب إلى طلل شاعري، ومن حجر أصم إلى شاهد على لحظات مجد أو وجد، وقد تكتسب بعض الأماكن شاعرية تكاد تلازمها كالقمر والليل والبحيرة والغابة وغيرها، كما أن هناك أماكن جاذبة تساعد على الاستقرار فهناك أماكن طاردة، ولعل الأمكنة في الشعر جعلته تقليداً فنياً متعارفاً عليه، حيث برز الحنين إلى الأوطان ومرابع الأهل ومرابع الصبا وأماكن الذكريات الجميلة والطبيعة الخلابة، وحين نقرأ الشعر الجاهلي القديم يبرز الطلل شامخاً فهو السمة البارزة التي تميز القصيدة الجاهلية، فالقصيدة التي تخلو من الأمكنة تبدو مبتورة وغير مكتملة لأنهم وجدو في الطلل مفتاحاً يفتتحون به قصائدهم وقد ظل سقط اللوى وحومل وجبل التوباد ورضوى توضح والمقراة ومدافع الريان والرقمتين وغيرها من الأماكن التي اشتهرت في الشعر العربي ألفاظاً تحمل الكثير من الدلالات الشعرية، فعلاقة الشاعر بالمكان ذات أبعاد متعددة تستحضر الواقعي والخيالي والوهمي، ويكفي أن الشاعر يعيش في المكان على مستوى الوجود الحقيقي، ويسبح في عالمه الشعري، فيستحضر المكان من المعرفة الثقافية، ويقيم لنفسه وجوداً فيه، أو يعدل من صورة المكان الحقيقي ويحيله للخيال، فالمكان يحمل قيمة ورموز ودلالات يشكل في أحايين كثيراً باعثاً للشعراء على امتطاء صهوة القصيدة، خاصة حين يتذكر اللحظات الجميلة التي مرت به فيربطها بكل ما كان يجري في المكان من ذكريات، حيث يُعيد الشاعر إنتاج ما عرفه عن المكان وما استوحاه منه ليفرغ على النص رقة المشاعر وروعة المفردة، ومنهم من جمع بين إبداع الصياغة الشعرية وروعة الذكرى لتلك المشاعر بكل رقة وعذوبة. إن الشاعر الحق ينتج المكان شعرياً من جديد، وبطريقة لا تعزله عنه منظومة الفكر الذي يمنحه إياه المكان، أو يمنحه هو للإنسان تأملاً واستيحاءً، وحين تلتقي حدود الواقع مع حدود الخيال في تلك المساحة وإمكاناته الذهنية ترتفع رايات الشعراء إبداعاً. إذاً الشاعر يخلع ذاته على المكان ويحيله إلى الأنا المختفي وراء حجاب الآخر. لقد استطاع الشعراء وصف تلك الأمكنة ليبقى ذلك شاهداً على الإبداع حتى الآن.
مشاركة :