يبدو أن الفلسطينيين، خاصة المتأسلمين منهم، أدمنوا الاحتجاجات والمظاهرات والتصريحات العنترية، وحرق العلم الأمريكي، ومعه صور الرؤساء الأمريكيين؛ وكالعادة لم يجنوا من كل هذا الضجيج والصخب إلا مزيدا من الفشل وتعثر الحلول لقضيتهم. اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو الاعتراف الذي أقدم عليه الرئيس الأمريكي ترامب، أثار غضب الفلسطينيين، وانعكس هذا الغضب في مظاهرات واحتجاجات عمت الأراضي الفلسطينية، وأغلب الدول العربية، وانتهت كما سابقاتها دون أن تغير أمريكا موقفها؛ بل أن هذه المظاهرات جعلت الرئيس الأمريكي يُقلص المساعدات الأمريكية للأنروا، المنظمة التي تعتني باللاجئين الفلسطينيين، بمعنى مباشر أن تلك العواطف الجياشة، والمندفعة، وغير المدروسة جيدا، لم يدفع ثمنها إلا اللاجئون الفلسطينيون. لا خلاف على أن القضية الفلسطينية قضية عادلة بكل المقاييس، وبقاؤها دونما حل، هو دليل واضح وجلي على الظلم والإجحاف، والممارسات غير الإنسانية، التي تكتنف كثيرا من مواقف المجتمع الغربي عامة، وأمريكا بوجه خاص. غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها، حين نتطرق إلى هذه القضية المعقدة والشائكة، تقول: إن أغلب أوراق الحل في يد القوة الأمريكية، شاء من شاء وأبى من أبى، وأن اسرائيل لن تكترث بالفلسطينيين ولا احتجاجاتهم ومظاهراتهم إذا كانت أمريكا مصطفة معهم؛ كما أن العالم العربي وربما غير العربي، قد يساندهم على مستوى الخطاب الإعلامي المعلن، غير أن من الغباء أن يعتقد الفلسطينيون، ومن ناصرهم من العرب القوميين والعرب المتأسلمين، أن من يقفون معهم إعلاميا، سيضحون بمصالحهم مع أمريكا، ويساندون عمليا القضية الفلسطينية, كما أن قضيتهم لن يكون لها حل ما لم يبدأ وينتهي من ردهات البيت الأبيض. لذلك فإن كل هذا الصخب والعويل الفلسطيني الذي أعقب إعلان ترامب الشهير بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، لن يغير من الواقع على الأرض شيئا. والسؤال الذي يطرحه كثيرون: وهل لدى الفلسطينيين وسيلة أخرى يعبرون بها عن غضبهم، سوى هذه الوسيلة؟ السياسة ترتكز أولا وأخيرا على الواقعية، واستشراف المستقبل، وقراءة ما لديّ من أوراق ضغط، وما لدى مناوئك من أوراق؛ والسياسي الذكي والحصيف يبني تموضعاته ومواقفه انطلاقا من هذه المعادلات الموضوعية لا على العواطف الجياشة، إذا اتفقنا على هذا المبدأ، فسوف نجد لدى إسرائيل من الأوراق التي تجعل أمريكا تناصرها وتقف معها، أضعافا مضاعفة للأوراق التي لدى الفلسطينيين، لذلك فإسرائيل لا ترغب بإقامة أي سلام مع الفلسطينيين، ما لم يصب في مصلحتها. وفي المقابل فإن (أي) سلام حتى وإن كان مجحفا في حق الفلسطينيين، أفضل من (لاشيء). أما الجعجعة التي ترفع راية المقاومة والتحدي والمواجهة المسلحة، فقد جربها الفلسطينيون منذ عام 1948 وحتى الآن، ولم يجنوا منها شيئا، في حين جنى منها الاسرائيليون كثيرا من المكاسب، ربما لم تخطر لهم على بال. الرئيس ترامب لوح بما أسماها (صفقة القرن) لحل القضية الفلسطينية، غير أن الفلسطينيين، بجميع فصائلهم بلا استثناء، رفضوها، مع أنهم لم يقرؤوها كما ينبغي، انطلاقا من الواقعية والموضوعية، وماذا في أيديهم، مقابل ما لدى الإسرائيليين, فقضية القدس (الشرقية)-مثلا- لم يتطرق لها الإعتراف الأمريكي، ومبنى السفارة الأمريكية سيكون في (القدس الغربية)، والعالم كله يعترف أن القدس الشرقية ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية الموعودة، لذلك كله فإن هناك هامش مناورة، حتى ولو كان ضئيلا، للتفاهم مع الأمريكيين، بدلا من المقاطعة، التي رفع رايتها الفلسطينيون. لذلك فإنني أعتقد أن رفض أبومازن للقاء نائب الرئيس الأمريكي عندما زار المنطقة، كان قراراً عاطفيا إنفعاليا، سيستفز الأمريكيين؛ وليس لدي شك أن صفقة ترامب ستكون ضمن قائمة الفرص المهدرة، التي عودنا الفلسطينيون عليها. إلى اللقاء
مشاركة :