تراجع منسوب التوتر في الشارع بعد انتشار الجيش في أكثر من منطقة ذات غالبية مسيحية، فضلا عن دعوات حركة أمل الشيعية إلى أنصارها بوقف تحركاتهم الاحتجاجية، لا يعني انتهاء الأزمة في ظل تمسّك كل طرف بموقفه لجهة عدم التنازل للآخر. ويصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على ضرورة أن يقدّم جبران باسيل اعتذارا على الملء عمّا بدر منه من إساءات بحقه، في المقابل يرفض الأخير القيام بهذه الخطوة، خاصة بعد ما قام به أنصار أمل من تعديات وانتهاكات للسلم الأهلي في البلد. ومنذ التسريب الذي حصل ليل الاثنين الثلاثاء، يخرج أنصار بري في احتجاجات شبه يومية، تتخللها عمليات حرق لإطارات مطاطية وإطلاق أعيرة نارية في الهواء، فضلا عن رفع شعارات لا تخلو من طائفية تستهدف المكوّن المسيحي برمّته، وحرق لصور وزير الخارجية ورئيس الجمهورية. وقد استفزّت هذه التحركات أنصار التيار الوطني الحر، الذين خرجوا بدورهم للشوارع مشهرين أسلحة في وجه الطرف المقابل. وأعادت هذه المشاهد إلى الأذهان أجواء 7 مايو 2008، حينما اندلعت احتجاجات بين مؤدين لحكومة فؤاد السنيورة آنذاك ومعارضين على رأسهم أنصار حزب الله وحركة أمل، وقد أفضت تلك الاحتجاجات إلى اندلاع مواجهات دامية أدت إلى مقتل وإصابة العشرات. ويرى سياسيون لبنانيون أنّ الساحة السياسية في لبنان تشهد منذ سنوات انحدارا واضح لجهة أسلوب التخاطب الذي بلغ مستوى متدنيا، ويشير هؤلاء إلى أن باسيل أخطأ مرتين حينما أطلق مثل تلك التصريحات أمام اجتماع عام، وأخطأ حينما رفض الاعتذار عمّا بدر منه، ولكن هذا لا يعفي حركة أمل من المسؤولية عما ما وصلت إليه الأزمة.التيار الوطني الحر كما أمل حريصان على ما يبدو على إبقاء الأزمة مشتعلة لحسابات سياسية ضيقة مرتبطة بالانتخابات النيابية ويشير البعض إلى أنّ خروج أنصار حركة أمل بتلك الطريقة الاستعراضية تعكس في واقع الأمر تضخم الأنا لدى الجانب الشيعي الذي يستشعر فائضا من القوة بسبب سلاح حزب الله، وأن هناك اعتقادا سائدا في الأوساط الشيعية إلى أنهم الطرف الأقوى والمُهيمن على الساحة اللبنانية. ويقول مراقبون إنّ المشكلة في لبنان تكمن في مدى تغلغل الطائفية التي باتت تسكن زاويا هذا البلد، حيث أن كل تصريح أو حتى مجرّد تمليح يتم تحميله بُعدا طائفيا الأمر الذي عزّز حالة الانقسام في لبنان، وهذا يشكّل تهديدا حقيقيا للسلم الأهلي فيه. ولا يبدو أن هناك توجّها فعليا لاحتواء شظايا تسريبات باسيل التي تعتبر امتدادا لأزمة مرسوم ضباط دورة 1994 التي تفجّرت بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب، والتي اتخذت أبعادا طائفية، أكثر مما تحتمل، وفق قول أحدهم. ولم تظهر حتى الآن أي بوادر عن وساطة يقودها حزب الله حليف الطرفين، حيث خيّرت قياداته التزام الصمت، منذ البيان التضامني مع بري الذي نشره تحت ضغط الشارع الشيعي. ويقول متابعون إن إيثار الحزب عدم التدخل حاليا يعود إلى رغبته في انتظار أن تهدأ الأمور للتدخل ورأب الصدع العميق بين الطرفين، وإن كان ذلك لا يعني أن الحزب ليست له هو الآخر مؤاخذات عميقة على التيار الوطني الحر، وبخاصة على رئيسه جبران باسيل، حيث تهمس أوساط الحزب بأنّ الأخير تجاوز جميع الخطوط الحمراء سواء لجهة إبدائه مؤخرا مواقف مغازلة لإسرائيل، أو في سعيه الدائم إلى مناكفة أمل. ومعلوم أن الأزمة بين التيار الوطني الحر ليست الأولى وإن كانت الأكثر حدة، وسبق وأن تدخّل الحزب في أكثر من مرة لمعالجة الوضع، في ظل خشيته من فقدان الغطاء السياسي الذي يوفره له هذا التحالف، للاستمرار في أجندته الإقليمية التي رسمتها له راعيته إيران. ويرى البعض أن التيار الوطني الحر، كما حركة أمل، حريصان على ما يبدو على إبقاء الأزمة مشتعلة لحسابات سياسية ضيقة مرتبطة بالانتخابات النيابية، دون أن يكون هناك أدنى اهتمام بأن ذلك قد يقود لمنزلقات خطيرة يتداعى لها كل لبنان. ويوضح هؤلاء أنّ ما حصل عقب التسريبات من “انتفاضة” للمكوّن الشيعي وبخاصة لأنصار أمل أدّى إلى شدّ عصب الشارع المسيحي إلى جبران باسيل الذي لم يكن له على أرض الواقع حيثية شعبية يستند إليها سوى تركة عمه (والد زوجته) الرئيس ميشال عون. وسجل في الأيام الأخيرة تزايد شعبية باسيل في الأوساط المسيحية. وبالطبع إبقاء الأزمة قائمة عشية الانتخابات النيابية من شأنه أن يخدمه بشكل كبير، ويضمن له كتلة تصويتية مهمة في الاستحقاق. بالمقابل فإن حركة أمل ورئيسها يريدان استثمار هذا الوضع، لصالحهما، من خلال تكريس الالتفاف الشيعي حولهما، وإزالة ما يدور في أذهان الكثير من الشيعة بأن مناكفات بري للتيار الوطني الحر غير مقبولة لجهة أنها تضر بحزب الله. والأهم وفق المراقبين أن حزب الله لن يستطيع على خلفية ما حصل إقناع حركة أمل بمراعاة حليفه المسيحي في الدوائر الموجود بها والتي تشكّل أهمية كبرى له مثل جزين.
مشاركة :