مؤتمر مكتبة الإسكندرية: الخيط رفيع جدا بين التفكير والتكفير بقلم: حذام خريف

  • 2/4/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

معركة التطرّف تحتاج استصلاحا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ومقاربة وقائية طويلة المدى، تكون فيها الثقافة أداة من بين أدوات كثيرة أخرى.العرب حذام خريف [نُشر في 2018/02/04، العدد: 10890، ص(6)]عراقيل كثيرة على الطريق نحو التنوير ومحاربة الظلامية الإسكندرية (مصر) – فلأقف هنا، ولأرى الطبيعة مليا شاطئ بحر رائع، أزرق أصفر، في صباح سماؤه صافية كل شيء جميل مفعم بالضياء فلأقف هنا، ولأخدع نفسي بأني أرى هذه حقا. هكذا بدت الإسكندرية في عيني شاعرها كفافيس (1863-1933) قبل سنوات كثيرة، وهكذا تبدو الإسكندرية اليوم لزائرها، مدينة جميلة مفعمة بالضياء والحياة، لكنه ضياء باهت وحياة تخفي وراء حيويتها الكثير من الوهن والعشوائية وسحابة مظلمة من التشدد حلت محل إشراقة التسامح. كانت الإسكندرية مدينة متعددة الأجناس والألوان، لكن بدأت الصورة تتلاشى مع تطور حركات الإسلام السياسي ونشأة الجماعات السلفية والمتشددة والتي جاء الربيع العربي ليخرجها إلى السطح. تلك الصورة عن مدينة التسامح والتنوع لم تعد تصلح إلا للعرض في المتاحف والحديث عنها بحنين في المؤتمرات والملتقيات كما كان الحال خلال فعاليات المؤتمر السنوي لمكتبة الإسكندرية حول التشدد والإرهاب، الذي عقد دورته الرابعة مؤخرا وكان محورها “الأدب والفن في مواجهة التطرف” بمشاركة أكثر من 400 مثقف وباحث وإعلامي. كانت جلسات المؤتمر موفقة من حيث الطرح والحديث عن أسباب التطرف في المجتمعات المسلمة، كما كان موفقا من حيث الافتتاح الذي اختير له أن يكون عبر افتتاح معرض “المشترك… العرب وأوروبا”، وليس هناك نموذج أدل من الإسكندرية للحديث عن هذا المشترك. مع ذلك، يبقى كل الكلام الذي قيل خلال الندوات والأحاديث الجانبية حديثا نظريا وتحليلا “نخبويا” لمظاهر الأزمة بمختلف زواياها. الواقع مختلف، وما شهدته الإسكندرية من تصعيد في خطاب التشدد والعنف، شهدته مدن ودول عربية أخرى كثيرة في العراق كما في تونس وغيرهما؛ بل إن مصطلح التسامح والتعايش بات يحتاج إلى تعريف جديد لأن الآخر لم يعد ذلك المختلف طائفيا أو دينيا أو هوياتيا. الآخر، اليوم، أصبح ذلك الذي يشاركنا الهوية والدين والطائفة أيضا. مجتمعات نمطية ساهمت سياسات الأنظمة في خلق أرضية قامت هذه الجماعات بتطويعها، من ذلك سياسة التأميم وتمكين الإسلاميين التي دفعت العديد من الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمن وغيرها إلى مغادرة البلاد. التنوع المجتمعي اختفى. غادر “الأجانب” وحدثت موجات نزوح كبيرة من الريف إلى المدينة وظهرت العشوائيات وتغيرت تركيبة المجتمع في مساع لإخضاعه لفكرة “إسلامية المجتمعات” التي روج لها سيد قطب (1966-1906) وأمثاله من منظري جماعة الإخوان والجماعات السلفية والمتشددة التي بدأت تؤسس لحضورها من قبل الربيع العربي بسنوات كثيرة.موضوع مواجهة التطرف والإرهاب سيبقى قائما ما دمنا لم نعرف حل إشكالية الجذور التي بنيت عليها الثقافة العربية، بما يجعلنا ضحايا لعمليات تضليل فكري وثقافي، ويجعل الخيط رفيعا جدا بين التفكير والتكفير بتصاعد خطاب تلك الجماعات، وفقدان المجتمعات العربية الليونة التي تكتسبها من التنوع والانفتاح، وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من فوضى وتكفير وتطرف. اليوم، مثلا في تونس، والتي كانت أيضا نموذجا لثقافة التسامح والتعايش، بتنا نحتاج إلى تسامح بين التونسي المسلم والتونسي المسلم، بعد أن تحولت منابر المساجد إلى مراكز إفتاء وتحريض. قد يكون الوضع مختلفا عن تونس في الإسكندرية أو القاهرة، كما في مدن عربية أخرى حيث التركيبة المجتمعية مازالت قائمة على الثنائية الدينية؛ الإسلام والمسيحية، بل إن الخطر في تلك المجتمعات أشد لأن التهديد مزدوج حيث التطرف ضد الآخر المسيحي والآخر المسلم. الحديث الشاعري عن التسامح يصبح مجرد خيال كتاب ومبدعين وذكريات نستحضرها خلال اللقاءات والمراجعات المتعلقة بسبل مواجهة التطرف والإرهاب، في حين أن الطرف الآخر ينكب على بناء أجيال من المفخخين فكريا والرافضين لكل من هو مختلف، مقتنعين بفكرة أن “هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم” (سيد قطب). الموضوع الذي جمع ثلة من المثقفين والمبدعين والإعلاميين والمسؤولين في مكتبة الإسكندرية، وهو موضوع الإرهاب والتطرف، مازالت ماهيته وكيفية مواجهته تخضع لجدال عقيم لم يتجاوز مرحلة الطرح الفئوي النظري وسيبقى عقيما طالما بقي محصورا بدائرة التاريخ، وطالما بقي الحديث عن تجديد الخطاب الديني حديثا مناسباتيا سياسيا لا نستحضره إلا عند حدوث عملية إرهابية، وطالما يعلموننا في المدارس السيرة النبوية لابن هشام كما وصلتنا منذ قرون دون توضيح الأسباب السياسة التي دفعت إلى ظهور هذه السيرة، بما يلغي عنها تلك “القدسية” التراثية ويحولنا من أهل نقل إلى أهل عقل، والأمر ذاته مع الكثير من النصوص والتفاصيل والأحداث التاريخية المروية عن فلان عن فلان عن…. فلان. سيبقى موضوع مواجهة التطرف والإرهاب قائما ما دمنا لم نعرف حل إشكالية الجذور التي بنيت عليها الثقافة العربية، بما يجعلنا ضحايا لعمليات تضليل فكري وثقافي، ويجعل الخيط رفيعا جدا بين التفكير والتكفير. ومن السهل أن تتغلب الحالة الثانية على الحالة الأولى، لأن الأرضية مهيأة لها أكثر حيث المجتمعات متخلفة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وحيث تتغلغل التيارات الأصولية والسلفية. كان أبرز سؤال يوجه إليك عندما تعرف نفسك بأنك تونسي هو كيف لتونس بلد بورقيبة أن تتصدّر قائمة الدول المصدرة للإرهابيين؟ لكن، عند تحليل الأدوات الناعمة التي ساعدت على نشر ثقافة التطرف والعنف يصبح الأمر سيان في مصر أو تونس أو في مجتمع آخر، أو حتى بخصوص المسلمين في المجتمعات الغربية.ماذا ستقدم قاعات السينما إذا كانت هناك صعوبة في تناول الموضوع الديني وسيف الرقابة الدينية والمجتمعية والسياسية مسلط على المفكرين والمبدعين دور الفنون والثقافة اتفق المشاركون والحاضرون في المؤتمر على ما قاله مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية، بشأن أهمية الأدب والفن في صناعة الحياة واستمرارها، أما التطرف فهو أداة لتدمير الحياة. وكان من بين الأطروحات الرئيسية التي تحدثوا في شأنها دور الدولة في نشر الثقافة والفنون وذلك عبر دعم ميزانية وزارة الثقافة وإنشاء المسارح ودور السينما. وكان حاضرا بقوة النموذج السعودي في هذا الحديث. وقارن الكثيرون بين سعي المملكة العربية السعودية لبناء أكثر من 300 دار سينما بحلول عام 2030، وبين دول مثل مصر، مركز صناعة السينما في العالم العربي، حيث تراجع عدد القاعات إلى أقل من 80 قاعة. لكن، إلى أي مدى يمكن للدولة أن تساهم في الاستصلاح الثقافي وهي ترزح تحت وطأة البيروقراطية وأزمات اقتصادية، وسياساتها تقوم على علاقة مد وجزر مع الإسلاميين والسلفيين؟ والأهم، إلى أي مدى يمكن أن يساهم الأدب والفن في توعية الشباب؟ وماذا ستقدم قاعات السينما في هذا الصدد إذا كانت هناك صعوبة في تناول الموضوع الديني، وسيف الرقابة مسلط على المفكرين والمبدعين؟ وتبدو مكتبة الإسكندرية، بدورها، جادة فيما يتعلق بفتح مختلف الأبواب التي من شأنها أن تحصن الأجيال الناشئة والشباب من الأفكار المتشددة. وأعلنت المكتبة في هذا السياق أن عام 2018 هو عام الجدية في مواجهة التطرف، حيث ستوجه طاقاتها للشباب والفئات العمرية الأصغر، وستعمل على التواصل مع المؤسسات الدينية بهدف تنظيم زيارات مكثفة وبرامج خاصة لهم في المكتبة، بهدف تقديم برنامج ثقافي مدروس فكريا تنويريا، يواجه آفة التطرف، ونشر ثقافة التسامح والمواطنة وقبول الآخر في المجتمع لمواجهة ثقافة الفكر المظلم والمتطرف. من الضروري إطلاق مثل هذه المبادرات وتشجيعها، لكن هل يمكن أن تنجح في مسعاها دون توفير أرضية ملائمة. قبل أن نتحدث عن الاستصلاح الثقافي وحتى ننجح في مقاومة الفكرة بالفكرة، ونضرب التراث بالتراث، علينا أن نتخلص من المكبّلات، مثلا عند الحديث عن الأدب والفكر والسينما والدراما والفنون كوسيلة لمواجهة الفكر المتشدد، نلمح فارقا كبيرا بين الواقع والطرح. تجربتنا مع الأفلام والدراما الدينية أو التاريخية الإسلامية يشوبها الكثير من التقصير، وهي تعد على الأصابع. قد يبرر البعض غياب مثل هذه الأعمال بقدسية الشخصيات الدينية التي تحرّم المراجع الإسلامية تشخيصها، أو بعدم جماهيرية مثل هذه الأعمال، لكنها تبريرات ضعيفة. الحجة الأولى يمكن أن يتجاوزها المخرج نسبيّا، حيث يلعب الذكاء الإخراجي دوره في مثل هذا النمط من الأعمال، كما أن البقاء في دائرة الخوف من الرقابة الدينية ومن قوانين عدم المس بالرموز الدينية سيجعل من الحديث عن الفن في مواجهة التطرف مجرد لغط. أما الحديث عن أن هذه الأعمال لا تلقى رواجا شعبيا فهو مبرر لا طائل منه وليس أدل على ذلك من الإقبال الذي شهده فيلم “مولانا” الذي شكل حدث السنة الماضية، كما يكشف وهن الحجة الجدل الدائر اليوم بتونس خصوصا على صفحات التواصل الاجتماعي بسبب ما يتعرض له المفكر يوسف الصديق من دعوات تكفير وتحريض على قتله.مسار التطرف يبدأ بالتعصب الفكري يؤكد حجم التأييد والتعاطف مع الصديق، كما مع إسلام البحيري وفاطمة ناعوت وغيرهما ممن تعرضوا للتكفير أو الحبس بسبب تدوينة أو قراءة مختلفة للتراث الإسلامي، أن هناك دعما لأفكاره وأن هناك تقبلا كلما قوي دفع المتشددين إلى أقصى درجات العنف وفي ذلك تأكيد على قلقهم وخوفهم. الفنون البصرية؛ سينما وتلفزيون وبرامج وثائقية… أداة ناعمة هامة يمكن استغلالها في مواجهة الفكرة بالفكرة. ولو يقع توظيفها توظيفا حسنا ويُهتمّ بها يمكن أن تثري الساحة الدرامية العربية وتساهم في تقديم نوع جديد من الأعمال التي تجذب المشاهدين، وتعرض صورة عن التاريخ الإسلامي مختلفة عن الشكل الذي حفظناه عن ظهر قلب في أفلام الرسالة والشيماء وفجر الإسلام والناصر صلاح الدين وغيرها من الأعمال التي تعرض في كل مناسبة دينية وفي جميع القنوات العربية منذ سنين طويلة. ولكن أحيانا ربّ ضارة نافعة، فبالنظر إلى أغلبية الأعمال التي قدّمت في السابق، قد يكون غياب الدراما التاريخية ذات البعد الديني في هذه الفترة الزمنية، أفضل لأنها لا تختلف في عرضها عن خطابات التطرف، وإن لم يكن ذلك مقصودا، فمشاهد الدماء والرؤوس المتطايرة تقدم التاريخ الإسلامي بصور خاطئة يراها الآخر الغربي بعيونه ويفسّرها وفق خلفيته عن المسلمين والإسلام، فترسخ الإسلاموفوبيا، ومناظر السيوف والدماء والخيول والبطولات في ساحات الوغى لا تختلف عمّا يبني عليه المتشددون حجتهم. من المؤكّد أن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص والحجاج والقعقاع وغيرهم من الشخصيات التاريخية الذين تم تحويل سيرهم إلى أعمال درامية، جزء مهم ومضيء من التاريخ الإسلامي، لكن حين يسرف العمل الفني في المثالية، فإنه يتحول إلى هرطقات لا طائل منها، وتلك المثالية هي التي تتيح الفرصة لأمثال دعاة تكفير الصديق وغيره. كان “إثم” يوسف الصديق، وهو باحث أنثروبولوجي يهتم بالبحث في القرآن من منظور فلسفي معاصر، وفق أحد المشايخ، الذي وسمه بـ”الزنديق” وحلل قتله، أنه قال “نحن لم نقرأ القرآن… منذ 14 قرنا نتلوه فقط”. وإن “المصحف هو عمل سياسي بشري، قام بجمعه عثمان بن عفان”، مستشهدا بقول ابن كثير “كنا نقرأ سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، حتى جاء عثمان فأراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما”. أمر طبيعي أن يثير مثل هذا الحديث الدهشة والجدل بين عموم المتقبلين ويجعل الحديث المضاد له أكثر تقبلا بسبب تغييب ثقافة العقل مقابل انتشار قاتل لثقافة النقل وبسبب غياب ثقافة التسامح مقابل تكريس ثقافة الشمولية الإسلامية المرسخة لفكرة عدم الاختلاف وحصر الهوية في شكل مضيق. مسار التطرف يبدأ بالتعصب الفكري الذي يلتقي مع الشعور بالتهميش وازدواجية مرضية سببها صراع داخلي بين الخطوط الحمراء التي فرضت على الشخص وبين رغباته وبين بحث مضن عن أجوبة لأسئلة كثيرة. هنا، يأتي خطاب التطرف ليقدم إجابة عن تلك الأسئلة، وفي ظل غياب طرف آخر يقدم إجابات مختلفة يصبح الاستقطاب سهلا.مكافحة التطرف مسار طويل ومعقد مسار معقد مكافحة التطرف مسار طويل ومعقد، ويبدو من العسير الحديث عن دور فاعل للثقافة والأدب دون توفير سبل عمل هذه الأدوات الناعمة وأيضا دون مراعاة الاختلافات بين مجتمع وآخر، وأيضا في ظل السياسة الخاطئة في التعامل مع هذا “العدو”، فالحرب العسكرية والأمنية ليست سوى نقطة في الفصل الأخير من المواجهة، وهي في هذا السياق معركة سياسية بين الدولة/النظام وأطراف تسعى لتحل محلهما. أما المعركة الحقيقة فهي معركة “أرض-أرض”، تحتاج استصلاحا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ومقاربة وقائية طويلة المدى، تكون فيها الثقافة أداة من بين أدوات كثيرة أخرى. يأتي على رأس قائمة هذه الأدوات تحسين العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي أس الحرب على التطرف والإرهاب بكل أشكاله. ففقدان المواطن للثقة في الدولة والتوتر المزمن في العلاقة بينهما بسبب السياسات الإقصائية والجهوية والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد والمحسوبية وتداعيات ذلك على الاقتصاد والتنمية ينتهي بجعل الشباب الهش، على مختلف الأصعدة، صيدا سهلا للمجموعات المتطرفة التي تترصد تلك الهشاشة والعقد وتوظفها لاستقطاب المجندين الباحثين عن “المدينة الفاضلة”. كاتبة تونسية

مشاركة :