ما الذي يدفع بـ«الانتحار الفرنسي»، الكتاب الجديد للمعلق السياسي إريك زمور، إلى صدارة الكتب الأكثر مبيعا في فرنسا؟ ولماذا يتلقف الفرنسيون كتاب الصحافية ناتاشا بولوني «هذا البلد الذي نقتل»؟ بل كيف يتجرأ الكاتب والمخرج سيرج مواتي، المحسوب على اليسار، فيصدر كتابا يروج لزعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبن؟ يبدو أن ما كان يعتبر عيبا، قبل أقل من ثلاث سنوات، صار «وجهة نظر» يتزايد عدد المؤمنين بها من الفرنسيين الذين يجري تخويفهم من بُعبُع الإسلام، وبالتالي من هيمنة المهاجرين على البلد وفرض تقاليدهم على الواقع الثقافي فيه. ثم جاءت وحشية فيديوهات «داعش» لكي تسقط ما تبقى من قطرة الخجل فوق جبهة «رجل الشارع»، أي ذلك المواطن البسيط الذي بات يجاهر بتعاطفه مع حزب الجبهة الوطنية وزعيمته مارين لوبين. إن النغمة السائدة هي وضع تبعات الأزمة الاقتصادية وما يتبعها من بطالة وأزمة سكن وعجز في صندوق الضمان الاجتماعي على عاتق الهجرة والمهاجرين. أي مهاجرين؟ أولئك الذين يتزوجون أكثر من امرأة وينجبون الكثير من الأطفال ويلتهمون المساعدات الاجتماعية ويزاحمون أهل البلد على سرير المستشفى ومقعد المدرسة والفرصة في الحصول على مسكن من مساكن ذوي الدخل المحدود. لا أحد يشتكي من المهاجرين الهنود والصينيين والفيتناميين. وحده المهاجر المسلم هو المذنب. وإذا كانت استفزازات إريك زمور ليست جديدة على المشهد الفكري فإن من اللافت للنظر أن يجتاح كتابه قوائم المبيعات منذ صدوره في مطلع الشهر الحالي وينافس الكتاب الفضائحي الذي أصدرته فاليري تريرفيلر، الشريكة السابقة لحياة الرئيس الفرنسي. وقد بلغ من «جاذبية» زمور أنه ضيف دائم على برامج الحوارات التلفزيونية والإذاعية، وكاتب له أكثر من منبر في الصحف، عدا عن برنامجه الأسبوعي على قناة «باري بروميير». وهو قد أصدر، خلال الـ20 عاما الماضية، الكثير من الكتب السياسية و3 روايات. كما لوحق الكاتب الذي يصف الهجرة بأنها «تسونامي ديموغرافي» أمام القضاء في الكثير من تهم الإدلاء بآراء عنصرية أو تحض على الكراهية، ورغم هذا فإنه حاز على جائزة «حرية التعبير» عام 2010، وجائزة «الكتاب غير المناسب» في العام نفسه، وجائزة «ريشيليو» للدفاع عن اللغة الفرنسية. وفي كتابه الجديد الصادر عن منشورات «ألبان ميشيل» الذي يزعم فيه أن فرنسا تقتل نفسها، يعزف زمور على المزمار ذاته، بانيا أطروحته على وقائع يقول إنها فككت البلد خلال السنوات الـ40 الماضية. ناتاشا بولوني المتخصصة في قضايا التربية والآتية من حزب «حركة المواطن» الذي أسسه وزير الدفاع الاشتراكي الأسبق جان بيير شوفينمان، هي اليوم واحدة من أبرز المحاورين السياسيين في برنامج «النشرة الكبرى». وهو برنامج يومي يحظى بنسبة عالية من المشاهدين، يتوقف عند قضايا الساعة وكيفية تعامل الإعلام معها ويرصد أقوال المشاهير وهفواتهم. كما تكتب بولوني مقالات في صفحات الرأي في «الفيغارو»، الصحيفة ذات النفس اليميني الأوسع توزيعا. وهي قد هاجمت، في آخر مقالاتها، تلك الأوساط «الكارهة للغرب» إلى حد القبول بـ«البربرية» المتمثلة في ما ترتكبه «داعش» وأخواتها في بلاد «تحجر على النساء وتذبح الكفار». وتبحث الكاتبة عن الجذر التاريخي لمفردة «بربرية» في اللغة الإغريقية، وتقول إن البربري، اصطلاحا، هو ذلك الذي لا ينتمي إلى الحضارة. فالغرب لم يعرف عدوا، طوال تاريخه، سوى الذي ينكر قيمه المشتركة. بولوني، صاحبة مدونة «طعم فرنسا»، اتخذت مواقف محافظة إزاء القوانين الجديدة التي تبيح زواج المثليين. كما كانت من المدافعين عن «الهوية الوطنية» في السجال الذي دار في عهد الرئيس السابق ساركوزي حول الهويات الدخيلة والمهاجرين الذين يرفضون الامتثال للنموذج الثقافي الفرنسي. وفي هذا السياق يأتي كتابها «هذا البلد الذي نقتل» الصادر حديثا عن منشورات «بلون». إنه يتوقف عند قضايا الدين والعلمانية والسيادة الوطنية ويندد بالذين يريدون قمع التساؤلات حول طبيعة العلاقات التي تربط بين فئات السكان في فرنسا. وإذا كان من الصعب وصف أفكار المؤلفة بالعنصرية فإن فظائع «داعش» فتحت الباب واسعا أمام المنادين «جاء الذئب»، وروجت لنبرة الخوف من تسلله إلى «وطن الأنوار» لزعزعة هويته. من هنا يأتي تساؤل المؤلفة: «من قال إن الشباب الذين يقطنون الضواحي لن يحبوا، مطلقا، هذا البلد رغم أنهم يحملون جنسيته، وبالتالي يجب إخراس من يتحدث في موضوعات تهاجمهم؟». يبقى «الكتاب المفاجأة» الصادر عن دار «فلاماريون» للصحافي والمخرج سيرج مواتي، أو معاطي، المولود في تونس وصاحب البرنامج التلفزيوني الناجح «رد خاطف». فما الذي يدفع بكاتب يهودي يساري كان مستشارا للرئيس الأسبق ميتران أن يلازم زعيما متطرفا لا يتورع عن التشكيك في المحرقة اليهودية، يسن أسنانه ضد المهاجرين المسلمين، لكي ينشر عنه كتابا بعنوان «لوبين وأنتم وأنا»؟ لا شك أن حالة التردي التي تمر بها البلاد العربية وصعود الجماعات التكفيرية ساهمت في «ترجيح» أفكار من كانوا في عداد «المعتوهين العنصريين»، ورفعت عن عدد من المثقفين حرج التعاطي معهم والجلوس في صفوفهم.
مشاركة :