وليلي فيلم مغربي مرير وشاعريينتقد الفيلم المغربي “وليلي” للمخرج فوزي بنسعيدي بشكل لاذع، الأوضاع الاجتماعية بالمغرب كالبطالة والفقر والفوارق الاجتماعية التي تؤول في معظمها إلى الفساد المتفشي في البلاد بسبب النهب الذي يقوم به بعض المسؤولين الذين استغلوا مناصبهم، فاستقووا بفعل النفوذ الإداري والسياسي ومراكمة الثروة، فصاروا رجال أعمال، لهم ممتلكات ومناطق نفوذ، وحرس وعسس.العرب محمد أشويكة [نُشر في 2018/02/06، العدد: 10892، ص(16)]حكاية عاشقين الرباط- يتأسس البناء الدرامي لفيلم “وليلي” للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي على قصة حب تجمع شابين “عبدالقادر” (محسن مالزي) و”مليكة” (نادية كوندة) ينتميان إلى فئة اجتماعية فقيرة، وهي قصة عادية بالنظر إلى ما عوّدنا عليه المخرج من تركيب على مستوى الحكي والتناول الفني في أفلامه الروائية، القصيرة والطويلة، بالرغم من أن الفترة التحضيرية لهذا العمل قد طالت، وكذلك عدد الجهات الداعمة والمانحة، فالطموح لم يتجاوز عتبة الأفلام الميلودرامية التي يصارع فيها البطلان الظروف المحيطة بهما للظفر بالعيش المشترك في وسط اجتماعي صعب. صحيح أن الفيلم لا يخلو من حسّ شاعري ونقدي هامين للغاية، ولكن يبدو أن كثرة المتدخلين كانت عائقا إبداعيا فعليا بالمقارنة مع الرهانات الكبرى الضامرة في الفيلم. وفي الفيلم كشف لحالة الفساد المتفشي في المغرب بسبب النهب الذي يقوم به بعض المسؤولين الذين استغلوا مناصبهم، فاستقووا بفعل النفوذ الإداري والسياسي ومراكمة الثروة، مستغلين ضعف المحاسبة إلى أن أضحوا يعيشون حياة باذخة داخل بناياتهم المخملية وخارجها، كما هو الحال بالنسبة لشخصية “السي محمد” (فوزي بنسعيدي)، وشخصيتي “لالة” (نزهة رحيل) و”فَاتِي” (منى فتو). الكل للبيعالفيلم يعرض حالة النساء اللواتي يعشن البذخ، لكنهنّ لسن سعيدات للغاية، وتمثل “لالة” نموذجا لهذه العينة التي تقضي معظم وقتها في الشرب يتناول فيلم “وليلي” وضعية المرأة بطريقة تعتمد المقارنة المفارقة، فالبطلة تنحدر من وسط شعبي فقير، ولكنها تشتغل خادمة في أرقى الفيلات المملوكة من لدن أغنياء المدينة وأعيانها. ومن هنا نفهم المقارنة بين أوضاع من يعيش في تلك الأحياء المتواضعة التي تقع على هامش المدن، وتلك الفاخرة التي تشكّل الأماكن الأثيرة للطبقة النافذة في المدن المغربية الكبرى، ومنها مدينة مكناس التي تحتضن غالبية مشاهد الفيلم. إذ تعيش الفتاة وضعية الاستغلال الذي يبدأ من التحرّش بها منذ اللقطات الأولى للفيلم، وما تتحمّله من أحاسيس نفسية تكبتُها وتداريها جراء اكتشافها لحياة الغنى والمُكاثرة والتباهي، والإنفاق أو الامتلاك الزائد عن الحاجة، فضلا عن كافة أشكال المعاناة الاجتماعية التي يكشفها الفيلم كالمتاجرة العلنية أو الملتبّسة في الخادمات عن طريق الوسيطات اللائي يجتهدن في تقديم شتى الخدمات الممكنة، لمن يدفع أكثر. ويقدم الفيلم فضاء المدينة منشطرا إلى قسمين عمرانيين متباينين: الأول للفقراء، تسوده العشوائية، والحرف المعيشية، وهو عبارة عن بنايات متواضعة، غير نظيفة، لا يوجد به فضاء أخضر، أزقته ضيقة، لا يختلف عن الكونتونات القصديرية والأحياء الهامشية شبه العشوائية. أما الثاني فللأغنياء، طبعا، وهو عبارة عن فيلات عصرية ذات هندسة معمارية حديثة، أزقته فسيحة، خضرته يانعة، شبه فارغ من الناس ممّا يدل على النظام. وتعكس هذه الثنائية العمرانية تصورا للديكور السينمائي لدى المخرج الذي يَعمدُ في كل أفلامه إلى التصوير في الهوامش والأمكنة التي ترتادها الشخصيات الرئيسية، كما هو الحال في فيلميه الروائيين القصيرين “الحافة” (1997) و”الحيط الحيط” (2000)، وفي أفلامه الروائية الثلاثة الطويلة “ألف شهر” (2003) و”يا له من عالم جميل!” (2006) و”موت للبيع” (2011)، وتنتصر الشخوص المهمّشة أكثر، وتنجلي الرؤية البصرية التي يخص بها المخرج مجتمعه. وينتقد الفيلم الأسرة انطلاقا من الأب المتواكل، السكير الذي يسرق مال زوجته لاقتناء الشراب، فالبطل ينتمي إلى أسرة كثيرة الأولاد، يكتظ بها البيت، لا معيل لها غيره، لكن الأم (جميلة شارق) ستظهر قوية ومحافظة على تماسك الأسرة العاطفي والتربوي والأخلاقي، بالرغم من الشتات الذي يتسبّب فيه الأب من خلال مشاداته المتكرّرة مع الأم وابنه الأكبر نتيجة إدمانه الواضح، وكسله الذي تذكيه بعض الأفكار السوداوية المستاءة من الأوضاع المحيطة به، خاصة وأنه مناضل نقابي ظل يدافع عن المبادئ الحقوقية ويطمح لتحقق الشفافية، كما تعكس ذلك حكاية الدجاج والانتخابات التي تشير إلى الأكل والازدراء مقابل التصويت. وعكس ذلك، يعرض الفيلم حالة النساء اللواتي يعشن البذخ، لكنهنّ لسن سعيدات للغاية، وتمثل “لالة” نموذجا لهذه العينة التي تقضي معظم وقتها في الشرب، وقضاء الوقت في بعض المتع المبتذلة كالاقتناء، لكنها تعاني من الوحدة داخل بيتها الرحب الفسيح، ذاك الذي تشتغل فيه الشابة القاطنة بحي بائس مكتظ. صوّر فوزي بنسعيدي المدينة المغربية بطريقة يميل فيها إلى رصد المتناقض والمفارق، باحثا عما يقع في كواليسها ودهاليزها وهوامشها من دسائس ومؤامرات ووقائع وأحداث عادية وغير عادية، شرعية وغير شرعية، إنسانية ولا إنسانية، وكأن الطارئ هو جوهر المدينة المغربية الراهنة، مدينة تسير نحو الجشع بكل المقاييس. وإذا ما عدنا إلى صورة مدينة مكناس (مسقط رأس المخرج) في فيلمه هذا، فهي لا تختلف عن تطوان في فيلمه السابق “موت للبيع”، ولا عن الدار البيضاء في فيلمه “يا له من عالم جميل”، حيث يسخر عبدالقادر من تقلبات المدينة، وهو يمر من على سطح عمارة إسمنتية قائلا “يا لها من مدينة مُسخت وامتلأت باللصوص والكذابين والشواذ والأجانب والأفارقة والسيدا والقوّادين وقُطَّاع الطرق والنتانة”. مدن متشابهة في الفيلم سيهرب الشابان العاشقان إلى ضواحي المدينة، وبالضبط إلى مدينة “وليلي”، الحاضرة الرومانية الأثرية لقضاء لحظات حالمة جميلة، حيث يلتقيان بمجموعة من السياح الآسيويين (جنسيتهم صينية على الأرجح) المنتظمين بشكل يشبه الاستعراضات العسكرية، كانوا يمسكون في أيديهم عصي التصوير الذاتي (السيلفي) الإلكترونية ويمشون خلف دليل سياحي بطريقة شبه بهلوانية، تحيل على المشاهد السينمائية للمخرج اليوغوسلافي إمير كوستوريكا. سينزاح الشابان المتحابان للاستراحة بأحد المقاهي، حيث يتبادلان ارتشاف عصير البرتقال من نفس الوعاء بطريقة شبه إيروتيكية مصحوبة بتبادل الريق عبر أنبوب الارتشاف البلاستيكي كدلالة على الرغبة المشتعلة بدواخلهما، وهو المشهد الذي أبدعت في تجسيده الممثلة دون تصنّع، ممّا جعل حركاتها ونظراتها منسجمة مع حالتها النفسية التي يسكنها حزن دفين لا يمكن لقسماتها الجميلة أن تخفيه، بالرغم من التفاؤل الذي تتظاهر به. وتنقلب حياة عشيقها المطمئن لوضعه رغم كل شيء رأسا على عقب، وذلك بعد عودته إلى مقر عمله الأول الذي طرد منه بعد صفعه لزوجة رجل نافذ في المدينة إثر إهانتها له بعد أن دعاها لاحترام دورها خطأ، وهو المخلص الصادق المتفاني، ومن ثَمَّةَ الاعتداء عليه بشكل وحشي ثم طرده من العمل.. يعود فيتحدّث إلى الحارس الجديد الذي حلّ محله، لكن كلامه سيكون بمثابة المونولوغ ذي النفحة التأملية الفلسفية المنتقدة لخواء الروح وعماء البصيرة الإنسانية التي أغوتها المظاهر البرّاقة، وأتلفتها الماديات فانقادت صوب كل ما هو زائف وعرضي دونما أي تفكير في الإنصاف والعدالة أو الصفح بعد التجبّر. ويكون حادث الاعتداء دافعا رئيسيا لتغيير حياة البطل والبطلة معا، وهو ما يعني أن الفيلم ينبني على أطروحة مفادها أن الإجرام صناعة اجتماعية خالصة، له دوافعه ومبرراته التي تنتعش في بيئة موسومة بالظلم وغياب العدالة، فيتحوّل الأشخاص العاديون المسالمون إلى أفراد منتقمين نتيجة امتلاء قلوبهم بالضغينة، وارتفاع درجة الإحساس بالظلم الذي تعرّضوا له في حياتهم. هكذا تستيقظ الهواجس الشرّيرة، وتتسرّب الأفكار السوداويّة للذهن، فيجد الفرد نفسه مندفعا بشكل غير اعتيادي نحو الاقتصاص لذاته، وتكون السينما قادرة على تعميق البحث في كشف دوافع الشر وتجذّره في الذات الإنسانية.
مشاركة :