مواجهة التطرف بالفن في مصر.. إشاعة الإبداع تحاصر الأفكار الظلامية بقلم: هشام النجار

  • 2/9/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

مواجهة التطرف بالفن في مصر.. إشاعة الإبداع تحاصر الأفكار الظلاميةمؤسسات مختلفة في مصر تنشط حاليا للترويج لمواجهة التطرف في المجتمع عبر تقديم عروض فنية مختلفة، وحرص الأدب على ملامسة هذه القضية الحيوية بطريقته القصصية والشعرية، لكن ينقص من شاركوا في هذا الاتجاه، من جهات رسمية وشعبية، نشر ثقافة الإبداع أولا، ومنح الفرصة كاملة للحريات، وهي الوسيلة الرئيسية للتصدي للإرهاب، لأن المؤتمرات التي تكتسي بطابع كرنفالي لن تؤدي إلى وقف أفكار المتشددين التي تنخر في قاع المجتمع، وأفضت إلى وجود حواضن كثيرة لهم.العرب هشام النجار [نُشر في 2018/02/09، العدد: 10895، ص(13)]الفن في الواجهة والمواجهة القاهرة - المراد الرئيسي من قضية الإشباع الثقافي والفني والمعرفي للريف والمناطق النائية والمحافظات الحدودية في مصر، هو تمكين أبناء تلك المناطق من ممارسة إبداعهم الخاص والتعبير عن ذاتيتهم، لا كما تصور البعض إغراقها بالمنتج الثقافي للمدن. ليس عسيرا مع التطور التكنولوجي أن يتلقى سكان سيناء أو غيرها أحدث الأعمال الفنية التي أنتجت في القاهرة، وهذا في حد ذاته ليس معيارا للتحول والترقي المدني. أما الذي يصد غزو الأفكار المتشددة فعليا فهو إشاعة ثقافة الإبداع، عبر الانفتاح على الدور الحياتي للفن كإيقاع يومي يمارسه البشر، تعبيرا عن انتمائهم لتاريخهم وتراثهم وبيئتهم المحلية. لدى هذه البيئات تقاليدها وهمومها، وأيضا شخصيتها التي ينبغي أن يبرزها ويحيط بزواياها وأبعادها الفن المفترض أنه يعبر عنها. ما جرى خلال سنوات ممتدة هو تمكن البعض من جماعات التطرف من نشر نوع من التهويمات الطائفية التي يطلقون عليها فنا، نتيجة انكسار روح الإبداع اليومي الخاصة بتلك المجتمعات، وكونها بيئة لا تقبل أن يعبر عنها منتج فني يحول عادات سكانها إلى مجرد تقليد للآخرين. وهو ما مكن المتطرفين من إحراز بعض النجاحات في هذه المناطق، لأنها قابلة لأن تحل محل ثقافتها الخاصة منتجات أخرى، ونشاط الجماعات السلفية المحموم وتوظيفها الدين واستغلالها للمساجد في جذب المئات من الشباب الذي تصادف فراغ وجدانه من ثقافة وروح أجداده الإبداعية المتوهجة. أثناء الجلسة الافتتاحية لمؤتمر “الفن والأدب في مواجهة التطرف” الذي عقد بمكتبة الإسكندرية مؤخرا، حكى نقيب الفنانين أشرف زكي عن زيارته ضمن وفد من ممثلي الدولة للقرية التي وقع بها الهجوم الشهير على مسجد الروضة بمدينة بئر العبد في العريش بشمال سيناء والذي خلف أكثر من ثلاثمئة قتيل. استوقفتني إشارته إلى الحوار الذي دار بينه وبين أحد شباب القرية، وتصب في الفكرة العامة التي بنى عليها مداخلته، بشأن افتقاد هذه الأماكن النائية للمنتج الثقافي والفني ما أدى إلى تمدد ثقافة التطرف والعنف. الشاب الذي عبر عن أمنيته لحضور بعض الفنانين للقرية لا يدري أن الفنانين المدعوين لمؤتمر يناقش مواجهة الفن للتطرف لم يحضروا حرصا على صحتهم من نزلات البرد، كما ألمح إلى ذلك مدير المكتبة الدكتور مصطفى الفقي. سواء كان غياب الفنانين عن المؤتمر متعلقا بانشغالهم أو بالحرص على صحتهم أو بطبيعة الفعالية وبعدها البحثي، وهو ما لا يتلاءم مع أجواء المهرجانات الفنية التي تجذب نجوم الفن، فنحن أمام تصور تنقصه الإحاطة الشاملة بطبيعة تفعيل دور الفنون والثقافة في هذه المجتمعات. المنتج الفني الذي تشتهر به المدن المصرية الكبرى، من سينما ومسرح وأوبرا وملاه ليلية واحتفالات ومهرجانات صاخبة وحفلات غنائية، هو ذخيرة متجددة ومعالم حضارية تناهض الرجعية والتخلف، ومظهر تستكمل به معالم المدنية. لكن لا يتحقق تمدين وتحصين المحافظات الحدودية والريف المصري بمجرد نقل هذا المنتج كما هو دون مراعاة الخصوصية الثقافية.في المدن الكبرى يخصم من دور الثقافة في مواجهة التطرف التعامل معها كسلعة ومشروعات خاضعة لقانون السوق في إندونيسيا كنموذج، يغيب صوت المطرب ويتناوب الحضور في المحافل العامة والخاصة على الغناء بأنفسهم على موسيقى الأغاني التي تلامس القضايا الحياتية المفعمة بروح البيئات المحلية وتراثها التقليدي. ولذا فالقضية متعلقة بتمكين سكان المجتمعات الريفية والحدودية من التعبير عن إبداعاتهم وأذواقهم واختياراتهم الفردية الحرة، كتشكيل لمستوى مدني خاص بمدنية لها طابعها المميز، لا بتقليد باهت ممجوج للعواصم الكبرى. قد لا يحسن سكان تلك المناطق التعبير عن التعريف الأكاديمي للنزعة الفردية لكنهم يعيشون تجلياتها، ويدافعون عن ذاتيتهم وحرياتهم وفق خصوصية خلاقة لها صلة بتلوينات الواقع المحلي. من هذا المنطلق فمعالجة الأفكار المتشددة ونشر التنوير داخل هذه المجتمعات لا يحتملان السجالات الدائرة بين الفقيه الديني والمفكر الحداثي، بما يميزها من مصطلحات وأطروحات معقدة غير متداولة في الأوساط الشعبية والريفية. بينما تؤدي الحصون الثقافية الشعبية الدور المطلوب بما تمتلكه من رؤى وأطروحات تتسق مع قيم الحداثة التنويرية من حريات ونزعة فردية، لكن بلغة وكلمات وألحان وقصص وفن خاص بها. هذه الرؤية مردها أن لكل مجتمع محلي مثقفيه وفنانيه الذين ينتمون إليه اجتماعيا ويعبرون عنه فكريا، وعن طريقهم يقوم الفن بوظيفته، فالمبدع والمتلقي حينها يصبحان بمثابة كيان واحد يعبران معا عن أشواق وطموحات واحدة. ومع تحول الإبداع إلى طقس يومي وممارسة تلقائية، يكتسب المجتمع حصانة ذاتية ذات أبعاد نقدية وفلسفية تحول دون اعتناق الأفكار الظلامية المتشددة. وهو ما لا يتحقق إذا شعر البعض من المواطنين بأن الثقافة والفنون صارت حكرا على طبقة بعينها، أو أن الفن صار أداة من أدوات إلحاق الفروع والأطراف بتبعية المركز. وحتى في المدن الكبرى ذات الباع في إنتاج الفنون، يخصم من دور الثقافة في مواجهة التطرف التعامل معها كسلعة ومشروعات اقتصادية خاضعة لقانون السوق القائم على العرض والطلب، ليصبح المتلقي في هذه الحالة مجرد مستهلك يستهدف المنتجون جيبه لا عقله وأمواله لا وجدانه. الأسئلة تدور حول ما هو الجديد الذي ستقدمه الحالة الفنية الراهنة بالنظر إلى محاولات دفعها لتقوم بأدوار خارج المركز في مواجهة الفكر المتطرف، وهي باعتراف العديد من الخبراء لم تسهم بأعمال مهمة ومؤثرة في هذا السياق داخل مراكز نفوذها. وكشف الناقد الفني المصري طارق الشناوي عن أن مرحلة التأثير الواسع للفن في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الشائكة، تتزامن مع ارتخاء دور سلطة رأس المال وتراجع نفوذ الطبقة المسيطرة على الإنتاج المادي. وقال لـ“العرب” إن الفن قائم في الأساس على التواصل والتفاعل مع الناس ومعالجة قضاياهم، وهو ما لا يتحقق مع هيمنة قوى توجه الحالة الفكرية والفنية بشكل عام لحسابات مادية. في المقابل، ينادي كثيرون بتدخل الحكومة لإصلاح هذا الخلل، لكنها غير مهيأة للنهوض بمسؤولية بهذا الحجم إلا في سياق مشروع متكامل لإعادة بناء نظام تعليمي تربوي وثقافي تنويري تقدمي. علاوة على إصلاح الفضاء السياسي، وهو ما يتطلب السماح بنمو مراكز قوة مجتمعية خارج هيمنة السلطة، للإسهام في عملية إنضاج الوعي وتشكيل الأساس المعرفي وبعث النهضة الثقافية. وتتردد الحكومات في الإقدام على هذا المشروع النهضوي المتكامل، ليس فقط لكلفته المادية الباهظة، إنما لأنه مسار يؤدي إلى استقلال مجتمعي ووعي ثقافي وسياسي عام يفرض قيم المساواة والحرية والعدالة والديمقراطية. يعني ذلك أن المعالجة الحقيقية الشاملة لظواهر التطرف وأفكار الجمود الديني عبر رعاية وتمكين الإبداع المجتمعي وبعث الوعي الفكري والثقافي، من شأنها تهديد الطبقة المهيمنة ماديا. والفن حينما يصبح من صنع الشعوب ومعبرا عن قضاياها وآمالها، يتحول أيضا إلى سلاح قوي في يد الطبقات المهمشة.

مشاركة :