كل من أهمل الحكمة والفلسفة وجد نفسه خارج المدار والتاريخ ودخل متاهة قد يصعب الخروج منها بسهولة، والأمثلة كثيرة ومتعدّدة في هذا السياق.العرب مراد البرهومي [نُشر في 2018/02/11، العدد: 10897، ص(23)] غيّر، ثابر، واجتهد، لكن لا تنسى أن تحافظ على الأصل وتسعى لأن تحسنه وتنمّقه وتهذّبه ثم تطوّره، هكذا تسير الأمور بالشكل الصحيح وهكذا يمكن للمرء أن يدرك طريق النجاح والفلاح والصواب. حياتنا تسيّرها رغباتنا وأهدافنا وطموحاتنا ومساعينا نحو الأفضل، والحقيقة قد تكمن في التفاصيل التي قد تقودنا إلى القمة أو العكس، هكذا أيضا حال كرة القدم التي لا تختلف في شيء عن أسرار الحياة اليومية للبشر، فهي بلا شك مرآة عاكسة لما يدور حولنا ونعيشه، فالكرة طبعا فيها الانتصار والانكسار، تتضمّن أيضا العثرات والهزّات العنيفة وكذلك النجاح والإبداع المتواصل. لكن كل هذا الأمر ينبني مثلما حياتنا ومصائرنا وفق منظومة دقيقة، يفلح من يحسن التعامل معها والاستفادة منها ويخفق من يتجاهلها ولا يعمل بها، أما الأمر الأكثر جللا وتأثيرا قد يكون بالأساس السير على طريق واضح ومرتكزات ثابتة، لا بد تبعا لذلك من وجود فلسفة تكون الوقود للانطلاق بسرعة وتمنحنا المرجعية والأسس الثابتة التي نقتدي بها عسى أن ننجح في تحقيق أحلامنا وطموحاتنا. سنتحدث ولو بإسهاب عن وصول العالم الأوروبي المعاصر إلى هذه المكانة المرموقة في الظرف الراهن، إذ أن أوروبا وخاصة فرنسا عانت طويلا من عصر “الظلمات” في القرون الوسطى، لكن تغيّر كل شيء وانقلبت المعطيات بعد أن ظهرت أجيال من المفكّرين والفلاسفة الذين أسسوا لعصر الأضواء والعلم والثورات الفكرية المُتعاقبة، إذن كانت الحكمة والموعظة الحسنة أساس النهضة التي تعيشها أوروبا التي لم تهمل الفلسفة وحكم الفلاسفة. الأمر سيان في كرة القدم، فكل من أهمل “الحكمة والفلسفة” وجد نفسه خارج المدار والتاريخ ودخل متاهة قد يصعب الخروج منها بسهولة، والأمثلة كثيرة ومتعدّدة في هذا السياق. فهذا المعطى قد يتعلّق بدرجة أساسية بالكرة الإيطالية التي تعيش عصرا “مظلما” منذ حوالي عقد من الزمن، الكرة الإيطالية فقدت الهيبة وتنازلت عن الريادة، سواء تعلق الأمر بالمنتخب الأول أو الأندية التي يعاني أغلبها من تراجع رهيب في المستوى ولم تعد قادرة على المنافسة بروح عالية. الأمر ببساطة يمكن تفسيره بتجاهل “الطليان” للحكمة والفلسفة الرشيدة، فالجميع في إيطاليا لم يسع إلى التطوير والبحث عن تطويع الأساليب الكروية التي مكّنت كرتهم من “حُكم” العالم لسنوات طويلة، لقد تم إهمال “الفلسفة” والأفكار الكروية الرائدة، والأكثر من ذلك تم تجاهل الأسس التي منحت الكرة الإيطالية الأفضلية فيما سبق من الزمان. هذا المصير عرفته الكرة الهولندية أيضا التي أهملت فلسفتها الكروية المرتكزة على الكرة الشاملة، وبحثت عن حلول أخرى، لكنها دفعت الثمن غاليا، فالفرق الهولندية لم تعد قادرة على الهيمنة والتألق في أوروبا، أما المنتخب الأول فقد خسر الكثير وعاد سنوات عديدة إلى الوراء، إذ لم يتأهل إلى كأس أمم أوروبا وعجز أيضا عن الوصول إلى نهائيات كأس العالم بعد أن خاض منذ ثماني سنوات فقط نهائي المونديال، وهذا حدث جلل كان نتيجة غياب الحكمة وانعدام الفلسفة بعد أن حرص الهولنديون على إحداث ثورة جديدة، لكن الحكمة تقول إن “الثورات التي تنبثق من عقول الفلاسفة، خير من الفلسفة التي تنبثق من عقول الثوار”. وما ينطبق على الكرة الإيطالية وكذلك الهولندية يتجلى أيضا وبوضوح في عدة نماذج أخرى، قد ينطبق الأمر على ريال مدريد مثلا، فالفريق الذي تباهى الموسم الماضي بصعوده إلى قمة المجد ونال كل الألقاب وحطّم كل الأرقام القياسية، افتقد للحكمة والفلسفة هذا الموسم، فتخلّف عن الركب، وقد يعود ذلك بالأساس إلى فشل مسؤوليه وكذلك مدربه زين الدين زيدان في الاستفادة من نجاحات الموسم الماضي، ومثلما قال روس بروت “عندما أقوم ببناء فريق فإني أبحث دائما عن أناس يحبّون الفوز، وإذا لم أعثر على أي منهم فإني أبحث عن أناس يكرهون الهزيمة”. ومع ذلك، يبدو أن زيدان بحث عن أناس لا يحبون الفوز ولا يبالون حين حصول الهزيمة، فتخمة الألقاب في الموسم الماضي جعلت الحكمة تغيب عن زيدان الذي لم يستوعب أن المحافظة على “الحرس القديم” دون البحث عن ضخّ دماء جديدة أساءت كثيرا للنادي الذي قد يخسر كل شيء مع نهاية الموسم. لكن بالتوازي مع ذلك، فإن غريمه الأزلي، ونعني هنا برشلونة، تفطّن سريعا إلى أن الحل يكمن في العودة بسرعة فائقة إلى روح الفلسفة الفنية التي ارتكز عليها الفريق خلال سنوات النصر والنهضة، فأقصى مدربه السابق لويس إنريكي المتمرّد على هذه الأسس ومنح الثقة لمعوّضه فالفيردي الذي أتقن إلى حد الآن قواعد اللعبة، وأجاد التعامل مع فلسفة برشلونة القديمة المرتكزة على فكرة الكرة الشاملة والجميلة، فكانت النتيجة رائعة إلى حد الآن. ويبدو أن فالفيردي استمع بآذان صاغية لنصائح الرسام الخالد فان غوغ عندما قال “إذا سمعت صوتا بداخلك يقول إنك لا تستطيع الرسم، فهذا يعني أرسم، سيصمت ذلك الصوت بداخلك”، وهذا ما حدث بالضبط في معسكر برشلونة، لقد صمت صوت التشكيك والقلق، وحضر صوت الحكمة بعد أن وقع التفطّن بسرعة إلى أن إهمال الفلسفة القديمة لن يجدي نفعا أبدا. كاتب صحافي تونسيمراد البرهومي
مشاركة :