إمبراطورية العقل 2-2

  • 10/22/2014
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

هذا المقال امتداد لمقال سابق تناول بعضَ العوامل التي أدَّت إلى أن يصبح العالمُ الأول «عالماً أول». ومن تلك العوامل تجاوز المنطق العاطفي، والاتجاه إلى تحكيم العقل، ورجحان كفة النقد الذاتي. ومنها أيضا ارتفاع مستوى الوعي الاجتماعي، ومن ثم تقلص تأثير الدجالين ومدعي المعرفة. كذلك أتاح المناخ العلمي الحر والمنفتح مساحة واسعة للبحث والاكتشاف والإبداع. فالإبداع لا ينمو في بيئة ثقافية خانقة. وإذا جاز لي أن أقارن بين عالمين، وأن أطبق ما ورد في كتاب إدوارد دي بونو «قبعات التفكير الست» على مجتمعاتنا العربية أمكن القول إنها مجتمعات ترتدي «قبعة التفكير الحمراء». أي التفكير العاطفي الذي يؤسس أحكامه واستنتاجاته وقراراته على أسس تفتقر إلى الحيادية والموضوعية، كما يعتمد على الحدس والانطباعات والأحكام المسبقة، وعلى ما هو متوارث، رغم تغير الظروف والأحوال. وغالبا ما يخفق هذا النمط من التفكير في الوصول إلى استنتاجات صحيحة أو قرارات صائبة. وفي مقابل ذلك المنطق العاطفي الأقرب إلى التفكير الرغبي، والميال إلى العيش في البلاغة وعليها، ساد في المجتمعات الحديثة منطق آخر أقرب إلى التفكير النفعي. تفكير يُغلِّب العقلَ على العاطفة، ويسأل عن الجدوى والنتائج الواقعية الملموسة، ويعتمد الحقائق والأرقام، ويعالج قضاياه وفق منهج علمي لا يخضع للأحكام القيمية. أعود إلى بقية العوامل التي جعلت العالمَ الأول «عالماً أول». وهي لا تختلف عن العوامل السابقة من حيث انحيازها إلى تحكيم العقل، واتخاذه منطلقا لها. فقد ساهم انحسار موجة الخرافة والمعرفة الزائفة في اتساع مساحة التفكير العقلاني. فشهد القرن السابع عشر تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية كبرى ساهمت في تشكيل المجتمع الحديث. صار التعليم الأولي إلزاميا، ونشطت الدراسات والبحوث في مجال الطب والرياضيات والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والأحياء، والتكنولوجيا، ونشطت حركة التأليف والنشر. وهي المرحلة التي عنونها ول ديورانت في موسوعته التاريخية بـ «المغامرة الفكرية». وكان عنوانا معبرا. فالمغامرة ضد الاستكانة وحال الثبات. والرواد السابقون لعصورهم مغامرون، يمهدّون الطريقَ للآخرين، ويفتحون الأبوابَ الموصدةَ ليعبر غيرُهم. وكانت الإنجازات الفكرية والعلمية والتقنية الكبيرة التي ينعم بها العالم الحديث ثمرة مبادرات، أو بتعبير آخر، مغامرات أسماء لامعة في مجال العلم والأدب والفلسفة عرَّضوا أنفسهم للأذى والعزل والتهميش، لكنهم ساهموا في صياغة العالم الحديث، وبقي تأثيرهم على المدى البعيد. وتوّجت تلك العوامل التي ساهمت في تشكيل المجتمعات الحديثة بمبدأ احترام إرادة الفرد، وحريته في الاختيار. وعدم الوصاية على تفكيره، أو التفكير نيابة عنه. كما كان لتحكيم العقل وتجاوز التفكير العاطفي الانفعالي دور في خروج المجتمعات الحديثة من دوامة الصراعات و«التناهش» إلى أجواء من التقارب والتعايش، والنظر إلى المشتركات الثقافية والإنسانية والأهداف والمصالح المتبادلة بدلا من العيش في أقبية التاريخ المعتمة. ذلك أن الانعتاق من شِراك الماضي شرطٌ لبناء المستقبل. فما أن تُستدعى أحداث التاريخ على ذلك النحو المستفز، حتى يسود منطق العواطف ليستثمره هواة الخوض في المياه العكرة. وقد كان فولتير مصيباً عندما قال: «إن من يجعلك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرٌ على جعلك ترتكب الفظائع»، وما علينا لندرك مغزى هذه العبارة سوى أن نتأملها في ضوء ما نشهده هذه الأيام من فظائع تنقل لنا على الهواء مباشرة وبالألوان.

مشاركة :