جوٌ شتويٌ بامتياز. رومانسيٌ إلى أقصى حد! ليس أفضل من كوب كاكاو دافئ، وبعض تأمل من النافذة على شارعٍ ظل يلمع منذ سويعات قلائل إثر بعض زخات مطر متفرقة. ليت المشهد يصاحبه صوت فيروزي رخيم يحلق متهادياً لينسى بوادر البرد. ليس يعنيه كل هذا... لا كوب ولا شارع ولا صوت دافئ. تحامل على نفسه ليصل إلى السرير ويجلس متدثّراً تحت بطانيته وبجانبه قربة ماء ساخنة أعدّها ليدفئ بها ظهره خشية أن تمتد سكاكين البرد نحوه فتبادره بطعنات متوالية غائرة، قد تسكنه في مكانه لأيام في السرير بلا حراك. كاذب أو ربما هائم في الأحلام من يجزم أن جو الشتاء يمت للجمال بصلة. أو ربما هو كذلك لكن ليس لمن اتخذت المناشير مسلكاً في عظامهم وسار الصقيع في أجسادهم سيرَ الإبر. لا يدري كم من السنوات عليه أن يتحمّل كل تلك الآلام منذ أن بادره أول غضروف بانزلاقه داخل عموده الفقري ثم توالت التصدعات ما بين تآكل وضمور، فرضت عليه الجراحة إثر الأخرى، فكان الحظ دوماً حليفَ من يشخّص آلامه بوجود عمل ما يستحق الفتح أو الحقن أو الاستئصال. مع الوقت أخذ يتنازل قسراً عن كثير من مهماته أو يتركها لأولاده الذين يتناوبون على زيارته في وفاء لم يكن ليحلم به أو صادف أن سمع عنه. المطر يهمي. يزيد قرع زخّاته على سطح النافذة كمن يستأذن بالدخول وتصطك قطراته المتقافزة على الرصيف الصلد كشخص يعدو في اتجاهه على وشك اقتحام نافذة حجرته. تناهت إلى أنفه رائحة بطاطا دافئة. لا بد أن عربة البطاطا ليست بعيدة مِن شُباكه. من الممكن أن يكون صاحبها ابتلّ من المطر فارتأى أن يقف بها تحت مظلة نافذته. الرائحة تجتر معها مذاقاً عسلياً في حلقه ابتلع ريقه على إثرها وتذكّر أن قطعتين من البطاطا في ثلاجته منذ أول أمس أو ربما منذ ثلاثة أيام، تبقيتا من بضع قطع اشتراها ابنه الأكبر في آخر زيارة. أغمض عينيه واستشعر دفئاً برتقالياً بدأ خافتاً ثم تزايد في شدته، وجد خفة في جسده تمكّنه من رفعه في يسر. يتجه نحو نافذته التي فُتحت على مصراعيها وانبعثت منها دفقة دافئة أذابت سكاكين البرد في جسده. سمع لظهره طقطقةً وإذا بجذوع تخرج من بين فقراته وتنمو منها الأغصان وتتشابك لتشدّ بعضها بعضاً، فتقيم ظهره بعد الانحناء. شجرة إذن تلك التي تنبت من ظهره. أو كذلك حسبتها الطيور! أخذت تأوي إليها عصافير خضر لا يدري من أي موطنٍ أتت ولا كيف أحسّت بالأمان فراحت تطلق زقزقات صباحية مشربة بالفرح. انطلق يعدو في الطرقات في مدينة تكاد تخلو من أهلها سوى أطفال صغار راحوا يتسابقون نحوه وهم يشيرون إليه بأصابعهم الصغيرة فاغري أفواههم في سعادة تكاد لا تصدق. هكذا قطع كيلومترات في خطوات معدودة حتى وصل إلى أطراف المدينة، حيث تقبع صحراء رملية تحسّس صلادة صخورها البيضاء التي ولدت لتوها، فتسْري فجأة في جسده رعشة جعلته ينتفض. كانت الحجرة لا تزال مظلمة سوى من ضوء خافت يومض وينطفئ فجأة فيحيل حجرته إلى صورة نيغاتيف فوتوغرافية تصاحبها قرعات متزايدة على نافذته. لا تزال رائحة البطاطا تنبعث من عُقب النافذة. تحامَل على نفسه وراح يتسنّد إلى الجدران التي تحمل كثيراً من بصماته الداكنة ذائبة الحدود في زرقة الجدران الشاحبة. فتح الثلاجة وأخذ يبحث عن البطاطا. فتح العلبة فكانت تعلو ظهرها خضرة مزرقة نافقة تعالت مكونة أشجاراً فطرية. أغلق العلبة وألقاها في القمامة.
مشاركة :