شعورنا بالانتماء للمكان الذي نعيش فيه، أو نعمل لديه، كثيراً ما يجعلنا أكثر قدرةً على ممارسة حياتنا باستمتاع أكثر، بل ويدفعنا لنكون أكثر قدرةً على تخطّي المتاعب، تماماً مثلما يفعل مارادونا، هو مَن تدفئه كلمات مديح صغيرة قيلت له، بأثرها الرطب يشعر بقيمته أمام نفسه والآخرين، وفي ذات الوقت تجعله يتفاخر بمهنة يقل دخلها، ولكنها تسعد قلبه! لا بالمال ولا بذيع الصيت كما يفعل الآخرون، يتفاخر العم أبو نظمي الشهير بـ"مارادونا"؛ نظراً لشبهه الشديد بالأسطورة الأرجنتينية "دييجو أرماندو مارادونا"، وإنما بأسماء القيادات السياسية وأسماء الصحفيين المشهورين الذين يحلّون ضيوفاً على مؤسسة الإنتاج الإعلامي التي يعمل لديها، بدءاً من مدير عمليات الأونروا "روبرت تيرنر"، من كان يكتفي بهزّة رأسه مع ارتشافة فنجان القهوة، إلى المفكر عبد الله الحوراني هو من صافح مارادونا، امتناناً منه لمذاق مشروبه. هناك أيضاً، مصور فوكس نيوز "مالكوم جيمس"، ومصورة فوكس نيوز "إيمي كولا"، من تُفضّل ارتشاف القهوة الباردة إلى جانب الحلويات، يجلبها لها مارادونا خصيصاً من محلات ساق الله الشهيرة كلمّا زارت غزة. وأسماء كثيرة يذكرها بلهفة، اسماً اسماً، متخوفاً من نسيان أيّ من أولئك الأشخاص، الذين ارتشفوا ذات مرة كأس شاي أو فنجان قهوة حضّره لهم بنفسه. هو لبساطته وطيبة قلبه يتفاخر بأسمائهم، يحفظ الطريقة التي عبّروا بها عن استطيابهم لمذاق مشروبه الساخن، يحفظ حتى هيئة التماعة ضحكات أعينهم له، قبضات أيديهم على يديه، التلويح بإبهامهم للأعلى إليه: أي تشجيعاً ودعماً له، انفرادة ابتساماتهم العريضة والمضمومة منها، حتى إنّه يحفظ هيئة ابتسامته ذاتها.. والسبب في كل هذا الدفء الذي يسري في قلب مارادونا، يشتعل من وراء إشارة تقدير دافئة، سواء كانت تلك الإشارة كلمة أو ابتسامة أو نظرة! من هنا لم يعد تحضير المشروبات الساخنة أمراً هيناً مستطاعاً، بنظر صانع الحرفة الأكثر إمتاعاً وإرضاءً. الحكاية بدأت منذ تركه مقاعد الدراسة صغيراً، حين طلبت منه والدته تعلّم تحضير المشروبات الساخنة، كونها خشيت أن يصعب عليه الحصول على حرفة يرتزق منها، لأجل ذلك علمّته هذه الصنعة. بحميمة بالغة، يستعيد مارادونا ساعة علمته والدته كل الأمور المتعلقة بتحضير المشروبات الساخنة، ليسرد لنا بتلقائية عذبة، لا تخلو من أصالة خبرة عمرها أربعة عشر عاماً، قضاها في تحضير الشاي لدى عدة مطاعم وأماكن أخرى "طريقة تحضير الشاي، هكذا: نضع إناء الماء فوق النار..". فجأة يتوقف عن الحديث، متمتماً بسورة الفاتحة لروح والدته المتوفاة، متابعاً حديثه: "الإناء يحتاج إلى 3 ملاعق ونصف صغيرة من السكر، تغلي الماء لمدة دقيقتين، بمجرد الغليان نُسقط فيها كيس الشاي، ولدقيقتين ندع الماء يغلي مع الشاي، نغسل عيدان المرمية قبل إسقاطها في الشاي، ثم نغلق غطاء إناء الشاي، كي يحتفظ الشاي بنكهة المرمية، وهكذا تحصلين على كوب شاي رائع المذاق!"، انتهى هو من سرد تفاصيل طريقة صنع الشاي العجيبة! ملحقاً الدرس القيّم بكلمته الشهيرة: "اللي بعده...؟" أي: ما طلبكم الجديد؟ هي كلمة أعتاد سماعها منه كلمّا انتهى من أداء مهمة، عُرف بها بين الصحفيين الذين يعملون في المؤسسة، تماماً مثلما اعتادوا على طرائف نسيانه والتي يغفرونها له عادةً، كونهم يستأنسون بطيبة روحه، وهو لذلك تحديداً لا يشعر أنّه مجرد ساعٍ، فالكل يحب ويستلطف مارادونا، ولشعوره بدفء هذا الانتماء، كثيراً ما يُمارس دور الصحفي أثناء التحضيرات الخاصة بأعمال الصحفيين، وأبرز دليل على ذلك: عدم تركه مقر عمله طوال مدة الحرب الإسرائيلية على غزة، واكتفى بالاطمئنان على أهل بيته عبر الهاتف. أحد الصحفيين شهد لمارادونا بدوره في مساعدة الصحفيين في تقديم تغطيات سريعة، المصعد كان متعطلاً بسبب انقطاع الكهرباء، بينما كان يصعد ويهبط بنشاط منقطع النظير، بغية المساهمة في تلبية متطلبات مهام المؤسسة على أكمل وجه، هذا هو مارادونا إذن.. وربما ليست حرفة تحضير المشروبات الساخنة من تجلب الدفء إليه، لكنّها كلمات التقدير البسيطة التي تعزز انتماءه، وتشعره كل مرة يستمع فيها لتلك الكلمات، وكأنّه شخصٌ فقد شيئاً منذ وقت طويل وحصل على ما فقده فجأة، وكم يحتاج المرء لكلمات دافئة تخفف عنه آلام متاعب الحياة! مارادونا يُعدّ واحداً من المنهكَين والمتعبَين، الذين لا يجدون الوقت لانتظار لحظات تخفف عنهم، هناك ضنك الحياة المعيشية في غزة، يدفع شريحة كبيرة من العمال إلى البحث المتواصل بلا هوادة عن أيّ مصدر دخل، دون أن يلتفتوا أمامهم أو خلفهم! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :