الجنرال أردوغان يخوض حربه الأولى دخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مغامرة عملية غصن الزيتون بجيش مضطرب أغلب قياداته وكبار ضباطه في السجن، ومن سلم من عملية التصفية فإنه يأتمر بأمر القائد الأعلى أردوغان الذي قدم نفسه في دور عسكري غير مسبوق بإدارته لسير المعركة في عفرين رغم أنه لا يملك خبرة كافية تخول له القيام بهذا الدور، ضمن مشهد تجاوز بعده القومي في علاقة بالقضية التركية الكردية إلى علاقة الرئيس بالمؤسسة العسكرية وبصلاحياته المطلقة ورهابه من تاريخ الجيش في صناعة الانقلابات وحماية علمانية الدولة.العرب [نُشر في 2018/02/14، العدد: 10900، ص(7)]معركة حياة أو موت أنقرة – لم يجلس الجنرال إسماعيل حقي كاراداي يوما خلف وزير الدفاع، وكذلك لم يفعل الجنرال حسين كيفريكوغلو، مثلما كان يفعل جميع رؤساء الأركان الأتراك الذين جاءوا قبلهما. وكعادة اجتماعات حلف الناتو الوزارية، كان الضبّاط العسكريون من الدول الأعضاء الآخرين يجلسون خلف قيادتهم المدنية، باستثناء الوفد التركي، حيث كانوا يجلسون بجوار وزراء الدفاع. ويعتبر الأتراك أن السير على خطى الأوروبيين في العلاقة بين العسكريين والقيادات السياسية المدنية هو خرق للبروتوكول. فالهيكل العسكري التركي واضح: وزير الدفاع لا يملك أي سلطة على القيادات العسكرية، ورغم أن كليهما يتبع رئيس الوزراء المدني بشكل رسمي، إلا أن العسكريين لا يتصرفون وفقا لهذه التبعية. لكن يبدو أن هذا النمط من العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا يتغير الآن. ويقول خبراء عسكريون غربيون إن حزب الحرية والعدالة بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، ظل يعمل على إضعاف القوات المسلحة طوال السنوات الـ15 الماضية، مما يعني أن أردوغان أصبح الآن أول رئيس تركي يكون مخولا بالصلاحيات العسكرية المقررة في المادتين 104 و117 من الدستور التركي. وتحوّل الأحكام الدستورية أردوغان إلى القائد العام (نيابة عن البرلمان)، كما تسمح له باتخاذ القرارات بشأن إدارة القوات المسلحة التركية، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو. واستفاد أردوغان من تلك الصلاحيات، عندما وجّه الطائرات والدبابات والقوات التركية بخوض المعارك في سوريا مرتين على مدى الأشهر الـ18 الماضية. ولكن أي نوع من القادة العسكريين أصبح أردوغان؟ فقد أظهرت عملية غصن الزيتون التي بدأت في عفرين في 20 يناير الماضي أن أردوغان “القائد العسكري” يشبه إلى حد كبير أردوغان الزعيم السياسي، فهناك مزيج واضح يظهر بين المخاطرة والبراغماتية في غزواته في سوريا. لكن هناك شيئا واحدا ظل ثابتا في القيادة العسكرية لأردوغان، وهو التأكيد الدائم على القومية التركية في جميع خطاباته وفي تحديده لأهداف الجيش ودوافع تقدمه، فضلا عن أن هناك تركيزا واضحا على القضايا الإسلامية، خصوصا عندما خاطب أردوغان مؤيديه حول آخر توغّل في سوريا. ومهما كانت النتيجة في ساحة المعركة، فقد قام أردوغان بالفعل بفرض دور عسكري غير مسبوق لنفسه أمام المدنيين الأتراك.أردوغان القائد العسكري يشبه إلى حد كبير أردوغان الزعيم السياسي، فهناك مزيج واضح يظهر بين المخاطرة والبراغماتية في غزواته في سوريا الاستيلاء على الجيش صلاحيات القائد العام التي يملكها أردوغان هي صلاحيات امتلكها الرؤساء السابقون، إذ لم تتغير مواد الدستور ذات الصلة منذ اعتماده في عام 1982. ومع ذلك، تظل طرق أردوغان التي منح بها الحياة لهذه السلطات الرسمية فريدة من نوعها. وكانت السابقة الوحيدة في أعقاب انقلاب 1980 على يد الرئيس الكاريزمي تورغوت أوزال، الذي كان عازما على فرض سلطته جزئيا عبر تحدي نفوذ العسكريين. وفي عام 1987، عين الجنرال نجيب تورومتاي رئيسا جديدا للأركان العامة، رغم اعتراضات القادة الذين اعتادوا منذ فترة طويلة على اتخاذ قرارات التعيينات والترقية بأنفسهم. ثم بعد عامين ونصف العام، أُجبر أوزال، الذي كان آنذاك أول رئيس مدني في البلاد، على مواجهة هيئة الأركان العامة لإصراره على أن تدعم تركيا عمليات "عاصفة الصحراء" بقيادة الولايات المتحدة. ثم استقال تورومتاي احتجاجا، ولم يحدث شيء. ولم تعقب ذلك تهديدات كانت متوقعة من الضباط، ولم تصدر مذكرة تضغط على أوزال لتغيير السياسة التركية، ولم يحدث أي انقلاب، لكن استقلال أوزال عن الجيش كان مشروطا، وعاد النمط المدني الأكثر ضعفا وسلبية بعد وفاته في عام 1993. وقبل إجبار الحكومة الإسلامية الأولى على ترك الحكم في يونيو عام 1997، أقامت هيئة الأركان علاقات إستراتيجية مع إسرائيل، معلنة عن وجودها في مركز دراسات بواشنطن، وهو ما تسبب في انزعاج رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان. ونفذت هيئة الأركان حينها أيضا عمليات عسكرية في العراق ضد حزب العمال الكردستاني دون إبلاغه مسبقا. وأمر كبار الضبّاط بتنفيذ عملية أخرى فى العراق بعد استبعاد أربكان من رئاسة الوزراء، ثم تم أيضا تهميش رئيس الوزراء الجديد مسعود يلمظ. وعندما تولى حزب العدالة والتنمية الحكم في نوفمبر 2002، بدأ في تغيير العلاقة بين القادة المدنيين المنتخبين في تركيا من جهة والعسكريين من جهة أخرى. وكانت أولى خطوات تحديد هذه العلاقة هي قيام أول حكومة تتولى السلطة من الحزب بإدخال تغيير طفيف على تشكيل مجلس الأمن القومي في تركيا، وهي القناة الأساسية التي أثر الجيش من خلالها على السياسة. غير أن حجم التأثير كان ضئيلا نظرا لسيطرة الجيش على الجهاز البيروقراطي للدولة.الجيش التركي لم يحقق أي تقدم يذكر على ساحة القتال مع الأكراد وبدأت جهود حزب العدالة والتنمية بشكل سلس نسبيا بسبب دعم الحزب لإصلاحات واسعة وضعها الاتحاد الأوروبي كشروط لانضمام تركيا إلى صفوفه. وتطلبت هذه الإصلاحات ربط علاقة الجيش والقادة المدنيين المنتخبين بالمعايير الأوروبية. ويبدو أن أردوغان ورئيس الأركان آنذاك، الجنرال حلمي أوزكوك، اتفقا على عقد صفقة تتجنب تأجيج الساحة السياسية أو أي تصعيد محتمل. انقلاب مدني لكن الأمور ازدادت سوءا في عام 2007 بعد أن حاول الجيش منع مرشح حزب العدالة والتنمية عبدالله غول من أن يصبح رئيسا للجمهورية. واعتقادا منه بأن النخبة التقليدية في تركيا لن تسمح له بالحكم أبدا، تعاون أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع أتباع فتح الله غولن لتقويض صلاحيات القوات المسلحة من خلال تقديمهم للمحاكمة استنادا إلى أدلة ملفقة. ورغم ذلك، استمر الجيش في حملات تطهير في صفوف الضباط المشتبه في أنهم أتباع لغولن، الذي تتهمه الحكومة التركية حاليا بقيادة منظمة إرهابية كانت وراء الانقلاب الفاشل الذي وقع في يوليو عام 2016، وغيرهم من أعضاء الجيش “الخونة". وأثرت هذه العمليات بشكل سلبي على الجيش، وجعلته في وضع لا يسمح له بتحدي أردوغان اليوم. ويقول خبراء عسكريون إنه لا يمكن التسرع بإعلان أن فترة الانقلابات انتهت تماما، لكن في الوقت ذاته يبدو أن فترة حكم أردوغان الطويلة غيّرت الأنماط السابقة من العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا، والعمليات التركية في سوريا خير دليل على ذلك. فقد أصدر أردوغان أوامره للقوات المسلحة التركية، التي حذّر قادتها في السابق وأكدوا على ضرورة تنفيذ عمليات سريعة ومحدودة عبر الحدود، بنشر قواته عبر الحدود الجنوبية مرتين. وكانت تعقيدات الحرب السورية سببا في محاولات أردوغان المتكررة منذ سنوات الضغط على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من أجل التدخل حتى لا يضطر الزعيم التركي إلى الدخول بقواته في هذا الصراع الخطير. وعندما وجد نفسه غير قادر على إقناع أوباما، خاطر بنفسه في النهاية بعد خمسة أسابيع فقط من الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، وأمر قواته المسلحة بتنفيذ عملية درع الفرات. لكن اتضح بعد ذلك أن هذه العملية كانت فقيرة التنظيم وسيئة القيادة واستغرقت سبعة أشهر لتنفيذها، وقُتل فيها ما بين 35 إلى 70 جنديّا تركيّا. ولم تشهد هذه العملية ردود فعل داخلية وتقلّصت تكاليفها السياسية بعدما تمكّنت أذرع حزب العدالة والتنمية من السيطرة على المشهد الإعلامي في تركيا من خلال الزخم الإعلامي والشعبي في أعقاب محاولة الانقلاب. لكن يبدو أن أردوغان تناول عمليته الأخيرة في عفرين بشكل مختلف قليلا، وهو أمر مفهوم نظرا لارتفاع المخاطر. فمن وجهة نظر مؤسسة الأمن القومي في تركيا، فإن الغزو هو حرب ضرورية لمنع احتمال ظهور أي تنظيم إرهابي على حدودها.طريقة الإدارة الدقيقة للعمليات العسكرية التي يتبعها أردوغان تشبه إلى حد كبير سلوك زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر في النصف الثاني من الحرب العالمية الثانية ومع ذلك، أمر أردوغان الجيش بالهجوم على القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة، وهدّد، بشكل ضمني، القوات الأميركية المتمركزة بمدينة منبج وفي الشرق نحو الحدود العراقية، وهي المنطقة التي تعمل بها القوات الخاصة الأميركية مع "وحدات حماية الشعب"، حليفة حزب العمال الكردستاني التي تشكل الجزء الأكبر من القوات البرية الأميركية في المعركة ضد تنظيم داعش. ويقول دبلوماسيون غربيون إن اللغة التي لجأ إليها أردوغان في الهجوم على الولايات المتحدة غير معتادة، ولم يكن القادة العسكريون السابقون ليستخدمونها. وأدت العلاقة بين واشنطن ووحدات حماية الشعب والنتائج الغاضبة التي خلفتها تلك العلاقة في تركيا، إلى رفع حالة الدعم الشعبي لأردوغان في الداخل، والتي كانت قد ساءت قبل عملية غصن الزيتون أكثر مما كانت عليه بعد فشل انقلاب يوليو. ويوضح الفشل في تحقيق أي تقدم يذكر في عملية عفرين أن إضعاف القوات المسلحة لم يكن نهجا سياسيا فقط بالنسبة لأردوغان، بل كان سياسة مهنية وعسكرية أيضا، إذ أدت حملة تطهير لضباط يشتبه بأن لهم علاقات مع حركة “خدمة” التي يتزعمها فتح الله غولن، إلى تسريح واعتقال نصف القوة الجوية التركية، وأكثر من نصف عدد الجنرالات في الجيش، إلى إعادة هيكلة الكثير من المؤسسات الحيوية التي كان الجيش يعتمد عليها عملياتيا وسحب شركات ومستشفيات ومدارس منه. وتقول مصادر لـ”العرب” إن أردوغان لديه قناعة بأن تركيا لن تدخل قريبا حربا واسعة النطاق مع قوة توازيها في الحجم أو أكبر منها. وأدت هذه العقيدة إلى عدم اكتراث واسع في صفوف حزب العدالة والتنمية بالقدرات القتالية للجيش التركي أو تسليحه. وقبل أيام قال أردوغان إن تركيا “لن تعقد صفقات شراء أسلحة جديدة من قوى أجنبية إلا للضرورة القصوى”. ويقول مؤرخون إن طريقة الإدارة الدقيقة للعمليات العسكرية التي يتبعها أردوغان تشبه إلى حد كبير سلوك زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر في النصف الثاني من الحرب العالمية الثانية، عندما همّش قادته العسكريين ولجأ إلى قيادة المعارك بنفسه، رغم أنه لا يملك خبرة كافية في إدارة معارك بهذا الحجم على جبهات متعددة. أدى ذلك في نهاية المطاف إلى تراجع الجيش الألماني أمام الحلفاء الغربيين المتقدمين من أوروبا الغربية، وقوات الاتحاد السوفييت المتقدمة من الشرق. ورغم الفارق الشاسع في القوة النارية والقدرات القتالية، لم يتمكن الجيش التركي من تحقيق أي تقدم يذكر على ساحة القتال مع الأكراد في شمال غرب سوريا إلى الآن. ويقول خبراء إن الجيش لن يتمكن من تحقيق أي تقدم طالما أن أردوغان مازال يتبع نفس النهج في التدخل المباشر في عمل العسكريين، وطالما ظل غير آبه لقدرات الجيش بشكل عام.
مشاركة :