في مقالها* لـ DW عربية تتوقف الكاتبة الصحفية رشا حلوة عند قصة التحرّش التي أثيرت في الآونة الأخيرة بمكة أقدس مكان لدى المسلمين، وتتساءل لماذا صمتت أو "أُسكتت" الفتاة التي كانت ضحية. قبل أن أبدأ بكتابة هذا المقال، أعدتُ قراءة المقالة التي عرّفتني بقصّة سابيكا خان، فتاة باكستانيّة نشرت قبل أيام تدوينة عبر فيسبوك، تحكي عما تعرضت له من تحرّش جنسيّ أثناء أدائها لركن الطّواف بالقرب من الكعبة في مكة المكرّمة. وجدت المقال الذي كتبته الصحافيّة ريانا الخلف بعنوان "نساء يتحدثن عن تعرضهن للتحرّش الجنسيّ أثناء أدائهن لمناسك الحج"، لكنني لم أجد التدوينة التي كتبتها الفتاة، عدت إلى فيسبوك، بحثت عن اسمها، ولم أجده أيضًا، وعلى الأرجح أنها حذفت حسابها تمامًا. في التدوينة التي نشرتها باسيكا خان، والتي للأسف لم أتمكن من التواصل المباشر معها، عبّرتْ بداية عن خوفها من نشر شهادتها، "خشيّة جرح المشاعر الدينيّة لمن يقرأها"، وهذا خوف مسوَّغ وحقيقيّ، ينمّ عن إيمانها وانتمائها للديانة، وشعورها بالمسؤوليّة والاحترام تجاه أماكنها المقدسّة. البدء بهذا الاعتراف هو امتداد للخوف الذي شعرت به باسيكا قبل نشرها شهادتها، وهو يشبه خوف نساء عديدات يرغبن بالبوح عن حالات تحرّش تعرضنَ لها، وهو إدراك طبعًا لعقليّات سوف تتهتم الضحيّة وتحاول إسكاتها، لربما كما حدث مع باسيكا، وحقيقة اختفائها عن فيسبوك. لنضع جانبًا، ولو قليلًا، الادعاء بأن حسابها مزيّف، فمن الممكن أن يكون الأمر كذلك، لكن، السؤال الأساسيّ الذي يجب أن نطرحه هو: هل من مساحات آمنة للنساء لا يتعرّضن فيها للتحرّش الجنسيّ؟ وإن تعرضن له، هل من مساحات آمنة للحديث عن ذلك؟ وبالعودة إلى ما كتبته باسيكا، وضمن ما قالته، بإمكانكم/ن قراءة الشهادة بالعربيّة عبر هذ الرّابط: "شعرت بعدم القدرة على الكلام. بقيت هادئة لأنني أعرف أن أحدًا لن يصدقني، وأن أحدًا لن يتعامل مع هذا الموقف بجديّة باستثناء والدتي، لذلك قلت لها كل شيء عندما عدنا إلى غرفتنا في الفندق. كانت أمي مضطربة ومحطمة تمامًا عقب تلك الحادثة. ولم تسمح لي بالذهاب بمفردي لأي مكان بعدها. من المؤسف القول إنك لن تكوني آمنة حتى في الأراضي المقدّسة. فقد تم التحرش بي. ليس مرة ولا مرتين، لكن ثلاث مرات. تجربتي بالكامل في مكة، تطغى عليها هذه الحادثة الرهيبة. أنا مؤمنة أنه من المقبول والمهم تمامًا أن تتحدث بصراحة حول التحرش الجنسي. لا أدري كم عدد اللواتي مررن بتجربة مماثلة هناك. لكن مع الأسف هذه الحادثة جعلتني مستاءة". وفيما يتعلّق بأن يكون الأمر مقبولًا ومهمًا للحديث عنه، كنا نتمنى ذلك بالفعل، دون علاقة بمكان وقوع حادثة التحرّش، فنتابع جميعنا الحديث المتواصل لنساء عن حوادث تحرّش واعتداءات جنسيّة تعرضن لها في كل مكان؛ في البيت والعمل والشوارع وغيرها، تختلف التجارب من مكان إلى آخر، لكن بالعموم، تحتاج النساء إلى الكثير من الشجاعة للبوح عن حوادث تعرضنَ لها، وإلى كثير من الصبر لاستيعاب رفض العديد حديثهن عن الموضوع، بل والمحاولات المستمرة لكمّ أفواههن. المسألة الثانية التي تتطرق إليها باسيكا في تدوينتها، هو السؤال حول عدد اللواتي مررن بتجربة مماثلة؟ وعلى الفور، قامت بعض النساء بمشاركة قصصهن عن حوادث تحرّش مشابهة، وبالمقابل، أطلقت الناشطة المصريّة منى الطحاوي، هاشتاغ (وسم) يحمل العنوان #MosqueMetoo، حيث ذكرت بأنها "تعرّضت إلى حالة تحرّش أثناء أدائها لمناسك الحج"، وأنها كتبت عن هذه القضية قبل سنوات. قصة الفتاة الباكستانيّة ومن ثم الهاشتاغ أثارا جدلًا كبيرًا، سواء من نساء شاركن قصصهن مع حوادث تحرّش جنسيّ تعرضن لها أثناء الحج، أو من أصوات رفضت تصديق القصّة بل والتشكيك في مصداقيتها والادعاء أن هناك "أجندات مخفيّة" من ورائها. بالإضافة إلى القصص التي شاركتها النساء والردود التي شجّعت النساء على مشاركة قصصهن عن التحرّش الجنسيّ الذي تعرضن له، هنالك من شكك في رواياتهن، من انتقد وهاجم شهادات النساء، وبالأساس عبر تويتر، وهذا يحدث غالبًا عندما يتعلّق الأمر بأي بوح لامرأة عن قضية تحرّش تعرضت له، بما في ذلك لوم الضحية. لكن ما يجعل الأمر أكثر حساسية في هذا السياق، هو أهمية مكة المكرّمة كمان مقدس للمسلمين والمسلمات في العالم كلّه، كما أن هنالك من هاجم النساء اللواتي تحدثن بحجة أن الشهادات هذه هي جزء من الهجمة التي يتعرّض لها العالم الإسلامي، وهذا مفهوم في سياق واقعنا السياسي، لكن، ألا يمكن أن نحمي مقدساتنا ونحمي نسائنا في الوقت ذاته؟ أو على الأقل، أن لا نحاول كمَّ أفواههن عندما يردن أن يتكلمن عن معاناتهن؟ وأن بوحهنَّ هو رغبة منهنّ بأن تصبح الأماكن التي ينتمينَ إليها ويحبنّها أماكن آمنة؟ والجدير بالذكر، أنه ومن خلال بحث بسيط عبر شبكة الإنترنت، وصلت إلى خبر نشر عام 2015 حول 3 حالات تحرّش أثناء الحج، وأن "المحكمة الجنائيّة في مكة المكرمة أصدرت حكمًا على رجل بعد ثبوت ممارسته فعلًا غير أخلاقيّ". قدسية الأماكن المقدسّة أمر مفروغ منه لكن لا يجب أن تكون هي الموضوع الأساسي في حديثنا عن قضايا التحرّش والاعتداءات الجنسية، فالبيوت مقدسة أيضا، وأماكن العمل مقدسة، وساحات النضال في ميدان التحرير، كانت مقدسة، لكن في جميعها حصل ويحصل حوادث تحرّش جنسي ضد النساء. في إحدى التدوينات عبر تويتر، كتبت امرأة: "هذه قضية شائعة في العديد من الدول، حيث لا علاقة لها بمسجد أو لباس ديني أو عدمه، ربطه بالمدينة المنورة أو العمرة أو الحج أو الزيارة، هو ضرر كبير"، أوافق على أن الأمر غير متعلّق بالمكان، التحرّش ليس له لا مكان ولا زمان ولا جنسية، هو بالضرورة متعلّق ببعض الناس على اختلافهم، التحرّش والاعتداء الجنسي ليس مسببه الأمكنة، إنّما بعض البشر، حتى لو تواجدوا في أماكن مقدّسة، فليس بالضرورة أن تكون أفعالهم أخلاقية، وبالتأكيد، فالحديث عما يحدث في البيوت والشوارع والأماكن المقدسة، ليس رغبة بخدش مشاعر أيّ كان، ولا المسّ بقدسيّة الأماكن، ولكننا نتحدث لأننا نحبّها وننتمي لها، ونريد أن نكون فيها بأمان، بلا أن يجرحنا أحد. * المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW
مشاركة :