الفساد والرشوة والمحسوبية تبدأ عندما يغلب بعض الأشخاص مصالحهم على مصالح الأمة، ولذا تحوّل الفساد على المستوى الدولي إلى قضية تهدد مناحي الحياة كلها، على رغم أنه ما زال بالإمكان استئصاله أو على الأقل الحد منه إذا توفرت الإرادة القوية وضرب بيد من حديد على المفسدين الذين يعطّلون مصالح الناس ويستولون على المال العام، ويحولون بعض الأجهزة إلى مطية لهم لارتكاب مفاسدهم المالية والإدارية. فالمنصب بصلاحياته الإدارية والمالية الواسعة متسلح بالبيروقراطية العفنة يمنح صاحبه السيطرة على الأنشطة ومقدرات القطاع العام والشركات التي تمتلك الدول حصصا فيها ويتصرف بأمواله فسادا أو رشوة، فالصلاحيات الواسعة تغري بالفساد خصوصاً مع قصور نظام المحاسبة والرقابة السابقة واللاحقة على المصروفات الحكومية والتدقيق وغياب قوانين الثواب والعقاب (أي قانون من أين لك هذا)، فغيابه يفتح الباب مشرعاً للفسدة لإساءة استغلال السلطة الوظيفية للكسب الخاص ناهيك عن تواضع أداء السلطات القضائية في معظم الدول. ولا ينحصر الفساد في كبار الموظفين، فإن بعض صغار الموظفين لهم دورهم في الفساد ويكون فسادهم على حساب المواطنين ليصبحوا أغنياء ومن وجهاء المجتمع في فترات زمنية قصيرة، بعد أن أصبحوا (وحوشاً) مفترسة مخالبها الرشوة والاختلاس، فبالأمس كان هؤلاء الصغار يعانون من عسر الحال، وبقدرة قادر يصبحون من أصحاب الفيلات والسيارات الفارهة والأراضي والعقارات هذا غير الأرصدة في البنوك. ولعل بعضهم يعتبر (الرشوة) من باب الهدية تلطيفاً مصطنعاً لهذا الجرم الكبير، وهذه المسألة الخطيرة التي تبرز الاستغلال والفساد الوظيفي نجد إجابتها واضحة بشكل صريح في الآيات الكريمة بنصها القطعي التي حرّمت الفساد بجميع صوره ومنها بالطبع الاستيلاء على الأموال العامة والخاصة ونهبها وبخس الناس أشياءهم. إن من يتدبر الآيات القرآنية الكريمة يتضح منها أنه، كلما كان للفاسد ولاية وسلطان وسلطة كان الفساد أشد وقعاً على الناس إذ إن من أشد دوافع الفساد وبواعثه طلب العلو في الأرض بغير حق، فالله سبحانه وتعالى نهى عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها كما نهى عن سلوك طريق المفسدين واتخاذ وسائلهم وتوعدهم الله بالعذاب الشديد والخسران الأكيد عاجلاً وآجلاً فالله جلّت قدرته لا يخفى عليه عمل الفاسدين وإن زعموا أو بانوا نفاقاً أنهم من القوم المصلحين، والله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء الفسدة بأن ينزلهم المنزلة التي يستحقونها من الخزي والهوان بقدر ما أفسدوه قال تعالى:{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} (الأعراف 56)، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} (الشعراء 183)، {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف 42)، {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد 25). وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة في نصوصها متفقة في معانيها بشأن الفساد مع النصوص القطعية في القرآن الكريم التي حرمت الفساد تحريماً قطعياً في جميع أنواعه، فعندما جاء رجل من الأزد يقال له ابن اللتبية، وهو أحد عمال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان والياً حصل على بعض المال خلال ولايته، وعندما قدم قال: «هذا لكم وهذا أهدي إلي»، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيته فينتظر أيهدى إليه أم لا؟» رواه البخاري. وعندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية واعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها لخوفهم -على رغم قوة إيمانهم -أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي عذرهم، ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود. المهم أن أصحاب الفساد يدركون أن الأمانة تعني فيما تعني ألا يستعمل الموظف وظيفته لأي غرض لمنفعة شخصية أو لقريب أو صديق حميم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذاك فهو غلول) رواه أبو داود، لكن وازعهم الديني الضعيف لم يعن رادعا لهم، ولم يتحملوا الأمانة التي ائتمنهم عليها ولي الأمرفهم مسئولون عن حملها أمام الله ثم أمام ولي الأمر، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} (الأحزاب 72). إن الفساد هو ليِّ عنق الأنظمة والقوانين والأعراف والمثل الإنسانية من أجل تحقيق منفعة أو إشباع حاجة ليس لمحققها حق فيها فهو آفة خطيرة، ومرض فتاك، وشرمستطير، لا يقع أثره على المفسد فحسب، بل يتعداه إلى كل أفراد المجتمع، فالمفسد لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا أفسد عدداً ممن يتعاملون معه، فالفاسد مثل الثمرة المعطوبة إذا لم تبعد فسد كل الثمر الذي حولها، وهكذا ينتشر الفساد بين الناس بمتوالية هندسية حتى يعم ويصبح ظاهرة تعز محاصرتها وتصعب محاربتها ويصبح القضاء عليها مستحيلاً. إن الفساد مصدره الأنانية وحب النفس، وأنه يبدأ صغيراً ثم يكبر. وأن الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق. وأن الفساد لا يراعي وشيجة قرابة ولا أواصر رحم ولا صلة صداقة. وأن الفساد ظلم صراح لاشك في ذلك. وأن المفسد مهما تمتع بثمرات فساده فإن عاقبته تكون وخيمة ونهايته رديئة وإنما يحيق المكر السيئ بأهله. وديننا الحنيف حذر من كل أنواع الفساد، وبين النهايات الوخيمة للمفسدين، وأوضح أن الظلم نهايته الضياع والهلاك، إن كان للأفراد أو للأمم أو لدول، وفي الأثر: (إن الله يقيم دولة الكفر على العدل ولا يقيم دولة الإيمان على الظلم) والظلم كما أسلفنا هو أساس الفساد وعموده، فالمفسد إنما يمارس ظلماً صراحاً، عندما يمارس فساده من رشوة ومحسوبية وغيرها من مظاهر الفساد. إذاً الفساد محرم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بكل صوره. والله ولي التوفيق
مشاركة :