عمل شاق وجهد كبير أن يحاور الصحفي أحد أساتذة الصحافة وأحد رواد الثقافة هاشم الجحدلي نائب رئيس تحرير جريدة عكاظ، المتعدد في عطاءاته الشعرية والصحفية والفكرية.. في هذا الحار يتحدث لنا هاشم عن طقوسه وعن تجربته وعن عدد من المسائل الثقافية.. فإلى التفاصيل: * لتعذرني بهذا السؤال التقليدي: في أي الأوقات تكتب؟ وهل للأديب أو المفكر طقوس خاصة أثناء الكتابة؟ - ليس للكتابة عندي وقت محدد، أكتب عند أية بارقة تحفيز وأتفاعل مع نصي مباشرة، حتى لا تخمد شرارة الكتابة الأولى، وهذا بعكس طقس القراءة، حيث لا يمكن لي القراءة في ظرف أو مكان، بل أحتاج إلى مزاج رائق وأجواء هادئة. طبعاً الكتابة تتنوع فليست كتابة القصيدة مثل كتابة قراءة في نص ما، وهذان الشكلان يختلفان عن الكتابة الصحافية المرتبطة بحدث ما، عموماً بعد عقود من معانقة الحبر يمكن للإنسان أن يقول بطمأنينة: أكتب عندما أكون مهيئاً نفسياً وذهنياً وشعورياً للكتابة، وبدون أية حدود للوقت والمكان. * متى يكون الدين - السياسة نافعاً للأديب والمثقف؟ ومتى تكون مثل هذه الأشياء مفسدة؟ - الدين مكون أساسي مرتبط بقيم وسلوكيات وواجبات والتزامات شرعية وأخلاقية بينما السياسة فعل براغماتي متغير، عموماً كل شيء في هذه الحياة إذا انحرف عن مساره تحول إلى مفسدة. ومن يتابع خطاب الإرهابيين يجد أنه يحاولون التدثر برداء الدين وكذلك بعض الأحزاب الدينية – السياسية في الشرق والغرب وفي كل مكان، ولكن الضمير الإنساني دائماً هو بوصلة الإنسان في هذه الحياة، وهو بوصلة خياراته الأصدق. * هل أصبحت الحداثة الشعرية في المملكة حفريات في عقول المثقفين أكثر من كونها مشروعاً إبداعيًّا لإعادة صياغة الوعي/ الواقع/ الفكر؟ - الحداثة الشعرية مشروع مستمر، بل إنني أظن أنه ما زال في بكارته الأولى، ولكن لا يمكن لأية حداثة شعرية أن تنمو دون أن تكون لها حاضنة مجتمعية، وأيضاً الحداثة الشعرية ليست نبتاً مستقلًا، بل هي جزء من حداثات عدة اجتماعية وسياسية ومدنية، وحتى تحقق غاياتها لا بد أن تتكامل، لذلك الحديث عن حداثة شعرية مكتملة نوع من المبالغة التي استكنا لها فترة من الزمن ثم أكتشفنا أنها كل يوم تواصل هدم وبناء نفسها مع كل صوت جديد أو شكل مستجد، وسنبقى نواصل هذا الركض حتى تأتي رؤية أكثر ارتياداً للآفاق من هذه الأشكال والأصوات التي عشنا معها وبها، وهذا في حساب الزمن لا يقاس بالسنوات، بل بالمراحل التاريخية المدوية. * لِمَ لمْ نرَ لك جديداً شعريًّا؟ أم لعل الصحافة أخذتك من الشعر؟ - لا أدري متى تحل العقدة من لساني، ولكنني لست قلقاً ولا منزعجاً. ألا تكتب نصاً جديداً أهون لدي من أن تكتب نصاً لا يمثلك ولا يتجاوز نصوصك السابقة. القضية عندي في الكتابة، وبالذات الكتابة الشعرية هي التجاوز والمفارقة. وحتى أجد نصي الجديد يحقق الشرط الفني الذي ارتهن له وأحاكم تجربتي – إذا كانت هناك تجربة أصلًا – سوف أنشره. ولكن لا يمكن للشاعر أن يغمض عينيه ولا يجرب أدواته ويمرن ذائقته كل يوم بنص جديد. وتبقى المعضلة: هل ينشر هذا النص أم يكتفي أن يكون بين مسودات كتاباته؟ هموم المبدع الحقيقي * عانت القصيدة الحداثية بالمملكة في فترة الثمانينيات والتسعينيات الأمرين لتثبت نفسها، فما الذي جعل الجيل الشاب من شعراء السعودية يعود للقصيدة الغارقة في عموديتها الكلاسيكية سيما بعد حالة الانفتاح الثقافي الحاصلة هذه الأيام؟ - في الشعر الشكل آخر هموم المبدع الحقيقي فالقصيدة محتوى لغوي وصور وتجربة إنسانية ثم يأتي الشكل في الأخير ليستوعب كل هذا الشتات، ومن وجهة نظري ومع تقديري لكل الأشكال الشعرية إلا أنني أرى قصيدة التفعيلة هي الشكل الأكثر قرباً لي والأشد تماساً مع ذائقتي الإيقاعية، أما بالنسبة للقصيدة العمودية فأرى أن كل المحاولات لإحيائها ما زالت تراوح مكانها وتستعيد تجارب الماضي بشكل أو بآخر، وذلك لعدة أسباب من أهمها عدم قدرة شعرائها على تطوير انفرادتها فالبردوني مثلًا تجده يظهر في الأصوات الجديدة دائماً وكأنه الرافعة الأساسية لكل نص أو صوت جديد. تجربتي الشعبية نوع من الرهان الضال * من خلال تجربتك في كتابة القصيدة الشعبية بعد أن سلبتك الفصحى، أود الدخول لهذا السؤال: ما الذي تبقى من (عيون مريم)، على الرغم من أن تجليك وتميزك في تلك التجربة الشعبية كان فريداً ولافتاً للانتباه؟ - تجربتي الشعبية نوع من الرهان الضال فليس من المعقول أن يكون نصاً واحداً يمثل تجربة، ولكنها كانت محاولة في طقس ما وفي زمن ما وجاءت الأصداء عليها وحولها متجاوزة لكل التوقعات، وستبقى في ذاكرتي ولكنني لست أسيراً لها ومحبذاً لفكرة تكرارها اعتباطاً وبدون محفز شعري أو مسوغ إبداعي. أنا ببلوماني * هاشم الجحدلي، رجل مغرم باقتناء الكتب بشكل لافت، هل هذا المسلك ضرورة ثقافية، أم حالة ببلومانية؟ - الاقتناء يمثل كل ما قلت هو شغف قرائي وأيضاً حالة ببلومانية كما يقولون، وأعترف بهذا لأنني أحياناً عندما أجد نسخة قديمة لكتاب قرأته واقتنيته لا يمكن أمنع نفسي من اقتناء هذه النسخة بأية وسيلة كانت، هذا الشغف لا أملك مبرراً منطقياً له، سوى أن علاقتي بالكتاب من مرحلة مبكرة، تحولت إلى علاقة جذرية وأساسية وصار لكل كتاب في مكتبتي قصة متشابكة خاصة الكتب النادرة أو الطبعات القديمة أو السلاسل التي توقفت، بل وأغلقت دور النشر التي أصدرتها مثل سلسلة ذاكرة الشعوب التي صدرت في الثمانينيات عن دار مؤسسة الأبحاث العربية التي أغلقت أبوابها في التسعينيات وقس على هذا الكثير. * نلاحظ تراجع مرحلة الحداثة من خريطة المشهد الشعري في الوقت الحالي. فهل نحن نعيش زمن ما بعد الحداثة سعوديًّا؟ أم أن الحداثة تمر بمرحلة معقدة لا تخلو من تخبط؟ - يا عزيزي دعنا نلتقط خيط الحداثة ونستوعب معالمه ثم دعنا بعد ذلك نتحدث عن ما بعد الحداثة الذي يبدو ما زال يبحث عن فضاء له، في ظل أن أدبيات ما بعد الحداثة ما زالت ملتبسة وتحمل أكثر من وجهة نظر عند المنظرين لها والمدافعين عن عوالمها. عموماً مهما كانت المصطلحات أساسية لأي عملية نقدية إلا أن الإبداع يتجاوز هذه التصنيفات ويفرض قانونه الخاص على أي طرح نقدي. فالنظريات تأكل بعضها وتتبادل الأدوار بينما الإبداع يظل إبداعاً على مدى مسيرة البشر.
مشاركة :