تشكل الفنون الجميلة على الدوام وجودية تعبيرية تتسم بالتفرد وتلتحف بالألق والجذب، ومن هذه الفنون الجميلة يأتي الفن التشكيلي، الذي يعد بمعايير الحضارات شاهداً تأكيدياً على ذلك الرقي الفني والمعرفي الذي تمتلكه حضارة أو كيان جغرافي دون آخر. ولقد سنحت لي عديد من الفرص خلال فترة زمنية تتجاوز العقدين من الزمان، أن أطلع على الكثير من النتاجات التعبيرية لعديد من فنانينا وفناناتنا السعوديات سواء من خلال حضور معارض الفن التشكيلي، أو عبر المراسم الخاصة لبعض فنانينا السعوديين. ولا يزال عالقاً لحينه في ذاكرتي ذلك المعرض الذي عقد بمنطقة جازان مؤخراً، وتحديداً خلال مهرجانها الشتوي لهذا العام وحوى عديداً من الأعمال الفنية التي تباينت بيت الصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية التي تنتمي لعديد من المدارس الفنية وتسعى للتماهي مع سريالية سلفادور دالي وتكعيبية بيكاسو إلى جانب التجريدية والبورتوريه الفني. وعلى الرغم من الجمالية الشكلية لهذه الأعمال الفنية؛ والذي أنعكس عبر مهارة هؤلاء الفنانين في انتقائية اللون المعبر، إضافة لوجود تجانس بين الزوايا وأيقونات اللوحة التعبيرية الأمر الذي يؤكد على امتلاك أصحابها الموهبة إلا أنه قد برز لي عبر الملاحظة العشوائية والمقننة منها جملة من الأمور لعلي أوجزها هنا في هذا المقام على عجالة. إذ قد كنت أقف أمام عديد من الأعمال الفنية فأجد فيها ذلك الجمال الذي يبرز في شكلانية إخراجها النهائي كما أسلفت، إلا أنه في ذات الوقت؛ يعد جمالًا مقيداً، بمعنى أنه عاجز بصورة أو أخرى عن التعبير. فاللوحة قد تعجبك في ألوانها وربما في الأشكال الرسومية التي تحويها، إلا أنها في ذات الوقت ما أن تغادرها حتى تُمَّحَى جملة وتفصيلًا – دون مبالغة – من ذاكرتك الآنية. فهي مجرد علاقة مبكمة بين اللوحة والرسام تعجز عن البوح ومكاشفة جملة المتلقين بما قد تكون تحويه من رسالة تعبيرية. وهذه الرسالة التعبيرية هي من الأهمية بمكان - في الواقع – وهي التي تحدث عنها أرسطو في كتابه النقدي الشهير «فن الشعر»، وأطلق عليها مسمى (التجربة Experience). ونستطيع أن نلحظها في اللوحات الفنية المعبرة للفنان المصري الشهير الراحل صلاح طاهر، وفي أعمال رسامين عالميين آخرين أمثال الرسام الفرنسي «مونية»، والأمريكي «توماس كول» والهولندي «رامبرانت». وهي كذلك ذات التجربة التعبيرية أو الرسالة التي أودعها النحات والرسام الإيطالي الشهير ميكيلانجيلو في منحوتته الشهيرة «تمثال موسى»، بحيث إن حضورها الطاغي، قد جعله - لا إرادياً - يجد نفسه وهو يطرق بإزميل النحت ركبة التمثال وهو يصيح به (أنطق.. أنطق). ليبقى هذا التمثال الفني بركبته ذات الشرخ تحفة فنية خالدةً، شاهدةً بل وناطقة بعتاب النبي موسى عليه السلام لبني إسرائيل على عكوفهم على العجل الذي صنعه لهم السامري وعبادتهم له دون الله بعد أن غادرهم للقاء ربه وتلقي الوصايا العشر منه. وهذا الأمر المفتقد – وأعني به البوح التعبيري – لدى البعض من فنانينا السعوديين المعاصرين، ربما يُرَدْ لعدم تلقي هؤلاء الشباب والشابات لذلك التأهيل الأكاديمي المفترض، إضافة لعدم سعيهم الجاد – فيما يبدو – لتثقيف أنفسهم عبر القراءات الانتقائية في مدارس الفن المختلفة وحضورهم أو مشاركتهم كذلك في معارض فن عالمية تمكنهم من الاحتكاك واكتساب الخبرة من الغير ممن له باع طويل في هذا الضِرْب من الفن. وحقيقة فإني أجدني أميل لإيجاد العذر لهم في بعض ذلك إن أردنا أن نكون منصفين؛ كالتأهيل الأكاديمي على سبيل المثال. في حين أنه يتعين عليهم القيام بجملة الإجراءات الأخرى الكفيلة بتطوير أداءاتهم كالقراءة والمران واكتساب الخبرة، إلا أن جمعيات الثقافة الفنون هي الأخرى مطالبة بأن تلعب دوراً فاعلاً وملحوظاً في هذا المقام. فهي المناط بها في المقام الأول أن تكون العرّاب الفعلي للوجودية الفنية لهؤلاء الفنانين والراعي الدائم لنجاحاتهم في مسيرتهم الفنية. وهو الأمر الذي نلحظه لدى الآخر. وللعلم فأنا عندما أتحدث عن الآخر هنا؛ فإن ذلك ليس من باب الافتتان بما لدى الغرب من منجز ثقافي، وإنما من باب أخذ العبرة تمهيداً لتجويد مخرجنا الفني على المدى البعيد. ويقيني أنه فقط بتبني جمعيات الثقافة والفنون لمنهج واضح ومدروس لدعم هؤلاء الموهوبين مادياً ولوجستياً، إضافة للقليل من الجهد الجاد من قبلهم فإن المستقبل يشي بأنه ستكون هناك نجاحات نوعية وإشعاع ثقافي في شقه الفني سيطول أرجاء هذا الوطن الجميل.
مشاركة :