الفوضى المستمرة في ليبيا: فشل في تجاوز إرث العداءات الدفينةوضعت السلطات الليبية برنامج احتفالات خاصا بذكرى ثورة 17 فبراير 2011 في ساحة الشهداء، التي كان العقيد الراحل معمر القذافي يلقي خطبه فيها في قلب العاصمة طرابلس. لكنّ الكثير من الليبيين يرون أنه ليس هناك ما يدعو للاحتفال في بلد غني بالنفط مازال يفتقد إلى الخدمات الأساسية ويشهد أعمال عنف وانقسامات مستمرة في وضع يغذي شكوك ويأس الليبيين من الخروج من مرحلة الفوضى الانتقالية، حيث تصطدم أي محاولة لإعادة النظام في كل مرة بعداء العديد من المجموعات المسلحة التي تبدّل ولاءاتها حسب مصالحها الآنية.العرب خالد حنفي علي [نُشر في 2018/02/16، العدد: 10902، ص(7)]مستنقع الدماء لن يجف قريبا بعد سبعة أعوام على اندلاع الانتفاضة التي أنهت بعد ثمانية أشهر 42 عاما من حكم معمر القذافي، يتطلع الليبيون إلى الخروج من حلقة مفرغة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي تحول دون استقرار البلاد والمضي قدما في بناء دولة المؤسسات والقانون التي تطلعوا إليها يوم 17 فبراير 2011. ومنذ سقوط النظام، تُمزّق ليبيا صراعات نفوذ تخوضها مختلف المجموعات المسلحة بلا رادع، وكذلك العشرات من القبائل التي تشكل المكون الرئيسي للمجتمع الليبي. وساهم هذا الوضع في تكريس حالة من الكراهية السياسية والاجتماعية بين الجماعات والمناطق المختلفة. إرث العداءات الكامنة أخرجت الفوضى إرث العداءات الكامنة إبان حكم القذافي وصاغته بعد الثورة، إما خطابات سياسية وفكرية تزدري أو تخوّن أو تكفر الآخر، وإما ممارسات على الأرض تصل حد استخدام العنف وإيذاء المختلفين سواء سياسيا أو قبليا أو مناطقيا. ويتجلى مشهد الفوضى الأكبر في التنازع الواضح بين حكومتين على السلطة دون أن تنجح أي منهما في إحلال النظام بالكامل في الأراضي التي تؤكد أنها تسيطر عليها. وتصر كل حكومة على أنها الأحق بالسلطة. وتتخذ حكومة الوفاق الوطني، التي انبثقت في نهاية 2015 عن اتفاق رعته الأمم المتحدة، من طرابلس مقرا لها بينما تتمركز السلطة المنافسة لها في شرق البلاد الذي تسيطر على أجزاء كبيرة منه القوات الموالية لقائد الجيش المشير خليفة حفتر.المرحلة الانتقالية تشهد شكلا جديدا للكراهية المجتمعية يتعلق بتوزع الولاءات في المنطقة بين المنافسين الجدد الرئيسيين على ليبيا، من الشرق الجيش الوطني الليبي والغرب حكومة الوفاق الليبي وتكاد حالة الكراهية والصراع لا تبارح تفاعلات الأحداث اليومية في المشهد الليبي، وتظهر بأشكال متعددة كاشفة عن جانب أساسي من أزمة هذا البلد، أحدثها عندما أعاقت ميليشيات مسلحة عودة نازحي مدينة تاورغاء، في مطلع شهر فبراير الجاري إلى منازلهم التي طردوا منها في 2011 بسبب دعمهم للنظام السابق، على الرغم من اتفاق تم التفاوض حوله بين حكومة الوفاق الوطني والأمم المتحدة. وتعثر بذلك اختبار مهم للتسامح الذي عول عليه الليبيون كنموذج للانتقال من مرحلة الثأر إلى المصالحة، إثر توصل المجلسين البلديين في مدينتي تاورغاء ومصراتة، خلال يونيو الماضي، إلى اتفاق مصالحة يقضي بعودة نازحي المدينة، وتعويض من هُجّروا منها إلى مدن أخرى، على خلفية دعمهم للقذافي. ولم يدلل ذلك التعثر على هشاشة سلطة حكومة الوفاق في إنفاذ ذلك الاتفاق، وضعفها أمام سلطة الميليشيات المسلحة في غرب ليبيا، بل طرح كذلك شكوكا حول القابلية للتعايش وقبول الآخر، خاصة من جانب مؤيدي نظام القذافي في تاورغاء، لأن استقطاب المصالح داخل مصراتة بين تيارات متشددة وأخرى منفتحة على المصالحة يلقي بظلال قاتمة على أزمة تاورغاء. ويمتزج هذا الشكل من رفض الآخر، الذي يكمن وراءه غياب القبول السياسي بين مؤيدي الثورة ومناصري القذافي، مع آخر ذي طابع ديني أكثر تعقيدا وخطرا، ويتمثل في الصعود السلفي المتطرف بعد الثورة الليبية، وكان مسيطرا عليه إبان سطوة القذافي. ولم يكن بروز المد المتطرف إلا نتاجا لسياقات متراكمة لم تشكل ثورة فبراير انقطاعا لها، فبينما قمع نظام القذافي التيار الجهادي المسلح، عندما برزت بوادر معارضته له في عقد التسعينات من القرن العشرين، خاصة على يد الجماعة الليبية المقاتلة، عمد بالمقابل إلى توظيف تيار سلفي مدخلي مهادن وغير مسيّس تعرض للتوظيف لاحقا بعد الثورة من قبل الأطراف الليبية المتنازعة. وما إن سقط حكم القذافي، حتى بدت الفرصة مواتية للتيار الجهادي للصعود إلى الواجهة السياسية والأمنية، بزعم أن أفراده شاركوا في قتال القذافي، لكنهم تحولوا لاحقا في المرحلة الانتقالية إلى محاولة فرض خطابهم المتشدد، في ظل هشاشة السلطة ولجوئها إلى الميليشيات المسلحة التي تغوّلت على الوظيفة الأمنية للدولة. وحتى بعد إضعافهم مازال الجهاديون ينتشرون في الصحراء ويشكلون تهديدا قائما. بفعل التهميش التنموي وعدم العدالة في توزيع الموارد بين الفواعل الليبية إبان حكم القذافي، أضيف للكراهية بعد قبلي واقتصادي في مرحلة ما بعد ثورة فبراير، كما الحال مثلا في جنوب ليبيا، عندما برزت صراعات عنيفة لم تفلح معها وساطات الداخل والخارج. وفيما كان صراع الولاءات القبلية في المنطقة قبل الثورة حول تأييد القذافي من عدمه، فقد أعطت المرحلة الانتقالية شكلا جديدا للكراهية المجتمعية يتعلق بتوزع الولاءات في المنطقة بين المنافسين الجدد الرئيسيين على ليبيا، من الشرق الجيش الوطني الليبي والغرب حكومة الوفاق الليبي، وغذت تلك الكراهية القبلية التنافس المحموم حول اقتصاديات التهريب في المنطقة.منذ سقوط النظام، تُمزّق ليبيا صراعات نفوذ تخوضها مختلف المجموعات المسلحة بلا رادع، وكذلك العشرات من القبائل التي تشكل المكون الرئيسي للمجتمع الليبي وأثرت شواهد الكراهية تلك وتأثّرت في آن واحد، بالساحة السياسية المنقسمة التي تعج بمفردات التخوين والعمالة للخارج بين الأطراف الليبية المختلفة. وأسهم التراشق المتبادل بين الفرقاء الليبيين في ألا تثمر الاستحقاقات الليبية بعد الثورة سوى عن المزيد من الاستقطابات، إبان مرحلة المؤتمر الوطني العام (2012) أو مجلس النواب (2014) أو حتى اتفاق الصخيرات المتعثر (2015)، وصولا إلى تعثر خطة المبعوث الأممي غسان سلامة التي أطلقها في سبتمبر الماضي بغية التوصل إلى توافق حول تعديل اتفاق الصخيرات، تليها مصالحة ثم انتخابات. ويرى سلامة أن إعادة النظام في ليبيا “يتطلب مسبقا تأسيس دولة شرعية يعترف بها الجميع”. وللتوصل إلى ذلك، خطط لتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في ليبيا في 2018. لكنه اعترف مؤخرا بأن الطريق مازال طويلا، كما يشكك عدد من الخبراء في إمكانية نجاح انتخابات قد تزيد الوضع تعقيدا. الخروج من المأزق ليست أشكال الكراهية تلك إلا غيضا من فيض ما كشفته سنوات ما بعد أحداث السابع عشر من فبراير، لكنها تشي من حيث جوهرها بمعضلتين مركزيتين في ليبيا ربما تفسران تعثر اختبارات التسامح وحالة الاستعصاء. وتتعلق المعضلة الأولى بأن الفعل الثوري، وإن عكس مضمونا تطهيريا ينزع لرفع الظلم والعدوان على الآخرين، فإنه تأثّر في الحالة الليبية بثقافة الاستبداد التي كرسها حكم القذافي، لجهة إحياء النخب الليبية الجديدة بعد الثورة للثارات القديمة. وساعدت على ذلك عسكرة الثورة ذاتها، فالجماعات الليبية التي توحدت في مواجهة القذافي لم تجد غضاضة في أن ترفع السلاح ضد بعضها بعضا، في ظل غياب قوة أمنية مركزية للدولة. وتتعلق المعضلة الثانية بالأساس بـ”صدمة التوقعات”، لأن توق الليبيين إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والمجتمعية بعد سقوط القذافي أعقبته حالة من الإحباط والصدمة في ظل تنازع أطراف عديدة على السلطة والثروة. ومن ثمة، استدعت الأطراف الليبية خطابات وممارسات إقصائية، دفاعا عن نصيبها، الأمر الذي خلق نمطا من سياسة الوصم للآخرين، فذلك يصف نفسه بالثوري، ويخلع على الآخرين أوصافا من قبيل الفلول وينزع عنهم الوطنية. ووسط ذلك، اتجهت قطاعات من الليبيين للاحتماء بالهوّيات الأولية وخاصة القبلية، كوسيلة دفاعية في مواجهة أي انتقام سياسي ومجتمعي. ولا يعني كل ذلك أن الكراهية في ليبيا قدر لا فكاك منه لكنه يظل رهنا بمدى الوعي السياسي والمجتمعي بكلفة الفوضى التي تلت ثورة السابع عشر من فبراير، وما إذا كان ذلك يشكل مدخلا لإرادة ليبية تتلاقى على الحد الأدنى من التوافق.
مشاركة :