تم تقويض خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، وفقاً لمحددات ومعطيات اتفاق أوسلو (1993)، منذ البداية أي منذ قيام إسرائيل بتقسيم أراضي الضفة إلى مناطق “أ” و”ب” و”ج”، ورفضها تسليم المعابر، وإبقائها على أنشطتها الاستيطانية، لكن ذلك تم حسمه تماما منذ رفض إسرائيل تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية من اتفاق أوسلو (1999) قبل البتّ في قضايا الحل النهائي، وهو الأمر الذي أيّدتها فيه إدارة أوباما، ورضخت له القيادة الفلسطينية، وتم ترتيبه في مؤتمر كامب ديفيد 2 (2000)، التي تمخّضت عن فشل كامل بسبب إصرار إسرائيل على فرض املاءاتها على الفلسطينيين، ومصادرة حقهم في القدس والعودة، والإصرار على الاحتفاظ بمستوطنات الضفة، ورفض العودة إلى حدود ما قبل 5 حزيران/يونيو (1967). رغم كل ذلك، فإن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب، هي التي أطلقت رصاصة الرحمة على هذا الخيار، الذي ظل لربع قرن في غرفة الإنعاش، بسياساتها التي شطبت كل قضايا الحل النهائي (القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود)، ولا يبدو أن سعي القيادة الفلسطينية لإيجاد بديل عن الولايات المتحدة في رعاية أو ضمانة عملية السلام سيلقى النجاح، إذ من دون ضغط أمريكي لا يمكن فعل شيء، لا سيما في ظروف اضطرابات العالم العربي، وبروز الخطر الإيراني، وتصدع دول ومجتمعات المشرق العربي. على ذلك فإن الفلسطينيين اليوم بحاجة ماسة، وأكثر من أية فترة مضت، الى استعادة خيار الدولة الواحدة الديمقراطية، ليس كخيار بديل لخيار الدولة المستقلة، وإنما كخيار موازي أو مكمل، وليس كخيار للاستعراض أو مجرد الابتزاز، وإنما كخيار كفاحي، علما أن هذا الخيار يتضمّن تقويض الصهيونية الاستعمارية والعنصرية والدينية، وإيجاد حل للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، على قاعدتي الحقيقة والعدالة، ولو النسبيتين، بواسطة مختلف أشكال النضال، وبالاستناد على التطورات السياسية في المحيط وعند الإسرائيليين والفلسطينيين، وإن كان يتطلب في مرحلة ما وضعا تفاوضياً. الواقع أن خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع ليس أسهل من الدولة الواحدة كما يعتقد البعض، الذي لم يقتنع من عقم هذا الخيار الذي تم تبنيه منذ أكثر من أربعين عاما (1974). ومثلاً، فنحن، أولاً، أننا إزاء دولة واحدة، من الناحية الواقعية، لكن مشكلتنا أن هذه الدولة استعمارية وعنصرية، وهي تشتغل وفق أنظمة قانونية عدة، فثمة قانون للإسرائيليين في إسرائيل، وقانون للمستوطنين في الضفة والقدس، وقانون للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967. لذا تكمن مشكلتنا في أننا لا نريد أن نرى هذا الواقع، مع تمثلاته العملية في الحياة اليومية، في كل ما يخص قضايا السياسة والأمن والاقتصاد والعملة والتجارة والبنى التحتية والمعاملات الإدارية. ثانياً، على أية حال فإن استعادة خيار الدولة الواحدة، الذي كانت الحركة الوطنية الفلسطينية طرحته، او ابتدعته، في بداياتها (في أواخر الستينات)، والذي يضمن حل مجمل مظاهر القضية الفلسطينية، وتحرير اليهود من الصهيونية، لا ينبع من أفول حل الدولتين، أو ربما استحالته فقط، بسبب الرفض الإسرائيلي، وبحكم تغلغل الاستيطان في الضفة والقدس، وبواقع التبعية الذي يربط كل شيء في الأراضي المحتلة بإسرائيل، وإنما، أيضاً، من حاجة الفلسطينيين إلى مشروع وطني يعزّز وحدتهم كشعب، ويعيد الاعتبار لقضيتهم كقضية تحرر من استعمار استيطاني، من نوع خاص، يتأسس على ازاحة أهل الأرض الأصليين، من الزمان والمكان. ثالثاً، ما يفترض إدراكه أن حل الدولة المستقلة، في الضفة والقطاع، في المعطيات الحالية، يفتح على معضلتين أساسيتين: الأولى، تقويض مفهوم الشعب الفلسطيني، أو تغييبه، بحيث يغدو الفلسطينيون على شكل وحدات اجتماعية مختلفة، لا صلة بينها، حتى في الداخل، حيث ثمة فلسطينيو 1948، وفلسطينيو الضفة، وفلسطينيو القدس الذين قد يأخذون وضعاً خاصاً، مع عدم الجزم بمعرفة ما الذي سيحصل في شأن غزة، هذا من دون ان نتحدث عن فلسطينيي الأردن (كمواطنين)، وفلسطيني لبنان وسورية وبقية دول اللجوء والشتات. اما الثانية، فتتمثل بأن ذلك الخيار يزيح أو يهمش السردية الوطنية، المتأسسة على النكبة، وتعريف الصهيونية كحركة استعمارية واستيطانية، وتالياً، فهوي يزيح قضية اللاجئين، ما يفضي إلى التخلي عن حقوقهم، لا سيما ان خيار الدولة المستقلة، وفقاً لاتفاق أوسلو، لم يعد يتضمن حق العودة وتقرير المصير على النحو الذي تمثل في «البرنامج المرحلي» الذي أقر في المجلس الوطني الفلسطيني (1974). ولنا أن نتأمل بعد هذين الثمن الباهظ الذي سيدفعه الفلسطينيون مقابل كيان محدود، لا يحقق قيام دولة مستقلة لهم، بكل معنى الكلمة، حتى في أحسن الأحوال. أي أن الأمر لن يقتصر على التنازل عن فكرة أرض فلسطين الواحدة، أو حتى تنازل عن أراض في الضفة، وإنما التنازل، أيضاً، عن وحدة الشعب، كما عن حقوق، وعن الرواية التاريخية، وعن عنصري الحقيقة والعدالة اللازمين لأية تسوية ولو نسبية. رابعاً، إن حل الدولة الواحدة، يجيب على مختلف الأسئلة المتعلقة باللاجئين والحدود والمستوطنات والقدس، وهو يحاول الإجابة على واقع وجود مجموعتين متباينتين من البشر في بقعة جغرافية وفي دولة واحدة، كما إنه يجيب على أسئلة الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم ما يعيد التطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطيني وقضية فلسطين، في إطار رؤية من إقامة دولة واحدة ذات نظام ديمقراطي لمواطنين أحرار ومتساوين، سواء كانت ثنائية القومية ببرلمانين، أو بغرفتين، أو دولة مواطنين في برلمان واحد، إذ أن هذا سيكون رهنا بالظروف والتطورات السياسية في المنطقة وعند الفلسطينيين والإسرائيليين، وبحسب قدرة كل طرف منهما على بناء حركة سياسية تنمي المشتركات، التي تتأسس على تقويض الصهيونية العنصرية والاستيطانية والاستعمارية بكل تجلياتها الثقافية والايدلوجية والعسكرية، ويأتي في ذلك نبذ التعصب القومي، والطائفي. على ذلك فإن مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، بكل أشكالها، ليس موضوعا للتفاوض، ولا هو مطروح للتطبيق مرة واحدة، وفي المستوى المنظور، كما إنه ليس دعوة للتصالح مع الصهيونية وسردياتها، ولا هو مطروح كبديل لحل الدولة في الضفة والقطاع، وإنما هي فكرة كفاحية تحتاح لمشتركات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في النضال لتقويض الصهيونية، ويمكن أن تتطور بالتدريج، في الكفاح ضد الاستعمار والعنصرية، كما إنها، مكملة أو موازية لخيار الدولة المستقلة، وتربط كفاح الفلسطينيين بالتغيرات المستقبلية التي يمكن أن تحصل في المنطقة وفي المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي.
مشاركة :