رغم تحذيرات قراءات الطقس بعواصف مقبلة وهطول أمطار غزيرة فلقد صممنا على رؤية جزيرة المتاحف ببرلين ( موزيومز انزل )، التي تحوي خمسة متاحف ضخمة." متحف بوده"، " متحف بيرغامون "، متحف الفن الحديث "و" المتحف القديم "، صروح ضخمة تزخر بمقتنيات ومعروضات فنية قيمة لتراث أجيال وعصور متعاقبة يزيد عمرها على 6000 سنة، وتلامس مختلف شعوب العالم، كما تتميز أبنيتها بالإبداع والحداثة في التصميم، وهي مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1999، والخطط التحديثية ماتزال على قدم وساق للمزيد من الهيكلة وتحقيق الكمال فيها. وتندهش من التحذيرات بأنك ستقف لساعات في طوابير لانهائية لكي تظفر بتذكرة دخول و خاصة لمتحف البرجامون - متحف الشرق الأدنى والمتحف الإسلامي الذي استغرق بناؤه عشرين عاماً، و رُحِّلَت اليه الآثار الإسلامية عبر السنوات عن طريق تركيا. على طول المسافة من الفندق للمتحف تمتد التجديدات الإنشائية اللانهائية في قلب برلين وتغلق معظم الطرق، واستغرق السائق ساعة للولوج لجزيرة المتاحف المحاطة بنهرشبريه من كل جانب. الحرارة التي هبطت فجأة في الثالث والعشرين من سبتمبر يوم دخول الخريف، لم تنجح في تشتيت الطابور الأفعواني الذي طوق المتحف، تصريح العبور الخاص نجح في حملنا لتخطي تلك الوقفة، وخصوصاً حين بدأ المطر بخذلان ذاك الطابور الطويل وبدأ يهطل بغزارة. تدخل المتحف مسلحاً بالدليل السمعي المسجل بكل اللغات العالمية، مدخل متواضع أشبه بدهليز عن يمينه مكتبه وعن يساره تلك الدرجات التي تأخذك للطابق الأول، تدخل فتنسرق روحك للبوابة الزرقاء التي تشهق في السماء بارتفاع 14 متراً وعرض 30 مترا، بوابة عشتار من حجر اللازورد الأزرق النادر المتماهي بالطوب المزجج لتشكيلات بارزة ل 575 حيواناً، وتذهل أمام هذه البوابة التي أُعيد بناؤها بالكامل بالمتحف لتشكل اليوم بنقوشها الناتئة ومحافظتها على ألوانها الباهرة الاصلية قبلة الأنظار الأساسية في متحف الشرق الأدني ذاك، وتقف كشاهد على عظمة الفن البابلي إذ يستعمل الحجر الكريم وببذخ منقطع النظير في بناء سلسلة من ثماني بوابات على أسوار مدينة بابل العراقية، يعبرها المسافر للولوج لبابل محوطاً بنظرات الأسود والغزلان والثيران وكلاب الصيد والكائنات الأسطورية على هيئة أسود برؤوس ثعابين أو ربما هو التنين الذي تتلخص أسطورته بكونه الحيوان الوحيد القادر على توليد حرارة تزيد عن حرارة جسده الداخلية، يولدها بمنخريه وينفثها على أعدائه، ويستخدم هنا كرمز لقوة ونفاذ سلطة نبوخذ نصر الوحش القادر المالك لبابل والذي يرعب أعداءه، و يستعمل هنا لتخويف القادمين على المدينة بالأذي. نقوش وعمارة مذهلة جعلت البوابة من أعاجيب الدنيا السبع حتى تم استبدالها في القرن السادس الميلادي بمنارة الإسكندرية. تشعر بأنك قزم في حضرة بوابة بابل الشامخة في السماء التي أمر ببنائها الملك نبوخذ نصر الثاني عام 575 قبل الميلاد، لعشتار سيدة الحب والحرب، و زيادة في الإبهار والمنعة فلقد قام المهندسون البابليون برفع مستوى الأرض عشرين متراً ليتم تشييد البوابة عليها، وأطلقوا عليها عدة أسماء منها "عشتار التي تهزم أعداءها" أو "عشتار تصد مهاجميها" أو "البوابة الملكية" حيث يعبرها الملوك في شعائر الاحتفال بعشتار.اذ كانت المواكب تخترق بوابة عشتار البوابة الرئيسية للمدينة، وتسير بطول شارع الموكب، الذي يقود لبيت الاحتفالات الدينية المعروف ببيت "أكيتو". تتأمل في القدر الذي قاد عالم الاثار والمعماري الألماني روبرت كولدواي لاكتشاف أول معالمها عام 1899م ، ليتوالى الكشف عن معجزتها وروعة تخطيطها وترف عمارتها، ويرجع لكولدواي أيضا الفضل في تحديد موقع جنائن بابل المعلقة والتي بنيت عام 580. أمضى الألمان السنوات ما بين 1917 -1988 في التنقيب عن قطع حجارة بوابة عشتار، وتم نقل البوابة على شكل حطام لبرلين حسب الاتفاقية التي أُبرمت سابقاً عام 1899 م بين الحكومتين الألمانية القيصرية والدولة العثمانية. إلا أنهم اضطروا لترك ما كشفوه منها وراءهم حين قامت الحرب العالمية الأولى ، ثم وبعد انتهائها سمحت لهم السلطات العراقية بالعودة، و نقلها لألمانيا .بعدها قام فريق من العلماء في برلين وعلى مدى سنوات بشغف ودقة وعلم برصف حجارتها كقطع أحجية، وأعادوا تشييدها داخل المتحف مع جزء من الطريق الشعائري الممتد لنصف ميل الذي تسلكه مواكب الاحتفالات السنوية بدخول العام الجديد. كما قاموا بانشاءات بمبنى المتحف لتتناسب مع هذا البناء الجبار.و يقال إن هناك قطعاً مفككة للبوابة الأكبر والتي بارتفاع 25 متراً، لا تزال في مخازن المتحف، ولم يتم عرضها لكبر حجهما بحيث لا يستوعبها المتحف ولاتحتمل أساساته وزنها، وصارت مصدر خلاف بين البلدين، حيث يقال بأنها نقلت دون علم العراق، ويجب أن ترجع لموطنها ككنز إنساني، مما يجعلنا نسترجع بحسرة ما آلت إليه الكنوز الإنسانية في العراق المطحون بالحروب والمتطرفين. خطر لي أن جدتي القادمة مما بين النهرين ستكون فخورة أن تجد شيئاً من جذورها لا يزال حياً هنا، جزء لم يطمس ولم تطله السرقات المنظمة، وتوشك أن تشعر بامتنان للألمان الذين أنقذوا هذه البوابة لكي تشمخ هكذا للملايين من البشر يتأملونها ويعون الحضارة التي عاشها الشرق الأدنى من ملايين السنين، وتأمل وبعمق أن تنجح منطقة الشرق الأوسط والعراق خاصة في تجاوز محنتها، واسترداد كنوزها البشرية والأثرية، وإعادة بنائها للأجيال العالمية القادمة.
مشاركة :