التوتر اللامتوازي: العلاقة المرتبكة بين أنقرة وواشنطن

  • 2/18/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى أنقرة من شأنها أن تصحح بعض الخلل الذي يعتري العلاقات بين واشنطن وأنقرة. إلا أن إعادة هذه العلاقة إلى سابق عهدها بما ينسجم مع التحالف الطويل الأمد بين العاصمتين يتطلب مراجعة تركية لمقاربتها الحالية في شأن الولايات المتحدة. كانت رئاسة دونالد ترامب قد ابتدأت بإيجابيات واضحة بالنسبة إلى أنقرة. ترامب المرشح ثم الرئيس كرّر في أكثر من مناسبة تقديره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإن جاء الأمر في سياق انبهار ترامب بالرجال الأقوياء، بوتين الروسي، دوتيرتي الفيليبيني، بل صدام حسين نفسه. ومع فوز الجمهوريين، بدا وكأن صفحة الرسائل الملتبسة التي ثابر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على توجيهها، المفعمة بالبلاغة والمفتقرة إلى المضمون، حول رؤية واشنطن للحل في سورية بما يراعي المصالح التركية، قد طويت. فالجمهوريون هم أهل العزم، على الأقل نظرياً. أنقرة، بالتالي تفاءلت بالخير، إلا أنها لم تجده. الريبة في أنقرة إزاء الولايات المتحدة في مرحلة أوباما كانت مبنية على موضوعين رئيسين، الأول هو التنسيق الميداني، والذي استمر في التطور، بين القوات الأميركية المولجة محاربة تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، السوري الكردي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني، الناشط في الجنوب الشرقي لتركيا، والمصنّف إرهابياً لديها كما لدى الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الدولية. فالعملية الميدانية الأميركية في سورية تضمنت تنظيم وحدات حماية الشعب، وبعض الأطراف الرمزية الأخرى، في إطار «قوات سورية الديموقراطية»، وتدريبها وتسليحها وتمكينها، فيما تركيا تعترض في كل مرحلة على هذا التهديد السافر لأمنها الوطني، انطلاقاً من أن أي سلاح تمدّ به واشنطن هذه القوات، هو مادة تعزّز عدوها المعلن والصريح، ولا سيما أن صوَر عبدالله أوجلان، مؤسس حزب العمال والسجين لدى تركيا، تزيّن مقار هذا الشريك الميداني الجديد للولايات المتحدة. بل بدا، من وجهة نظر تركية، أن الولايات المتحدة تتذرع وتكذب، تقدّم الوعود بأن السلاح محدود وموقت، وبأن انتشار هذه القوات المدعومة محصور ومضبوط، وأن التنسيق مع أنقرة أولوية في مواجهة تنظيم الدولة، وإذ بالوقائع تناقض المزاعم، وتتحول مناطق سيطرة قوات سورية الديموقراطية عملياً إلى الدويلة الكردية التي تخشاها تركيا عند حدودها. فما كانت تتوقعه أنقرة من واشنطن، بعد انتقال الرئاسة من أوباما إلى ترامب، هو الشروع بتصحيح هذا الخروج عن قاعدة التنسيق مع أنقرة أولاً، بصفتها الحليف التاريخي الثابت، إلا أن أمراً من هذا القبيل لم يحصل. أما المسألة الثانية، فهي الانقلاب الفاشل والذي كان يهدف إلى إطاحة أردوغان. لم تستكن أنقرة يوماً إلى تأكيدات أوباما بأن إدارته لم تكن على علم مسبق بالمحاولة الانقلابية، بعد أن كانت الطائرات المقاتلة الانقلابية قد خرجت من قاعدة تتمركز فيها القوات الأميركية، وبعد أن تلكأت واشنطن الرسمية في رفضها المحاولة الانقلابية إلى حين تبين فشلها، وبخاصة أن فتح الله غولن، الذي تتهم أنقرة جهات تابعة له بتدبير المحاولة، نزيل الولايات المتحدة نفسها. أنقرة طالبت وأصرّت على تسليم واشنطن غولن لها، ولكنها لم تحصل على نتيجة مرضية. ومجدداً، كانت رغبة الحكومة التركية في أن يتبدل الوضع، وتعمد واشنطن إلى تقديم غولن لمحاكمته بعد تولي ترامب الرئاسة، إلا أن ذلك لم يحصل. ليس غريباً، بناءً على ذلك، أن تقتنع أنقرة، وهي التي تعاني للتوّ من مماطلة تمزج الأسباب بالذرائع في مسعاها إلى العضوية في الاتحاد الأوروبي، بأن ثمة منهجاً في الموقف الأميركي، وأن الأمر ليس موقفاً لأوباما يبدّله ترامب، بل سياسة أميركية غير معلنة متعارضة مع المصلحة التركية. وهذه القناعة، المستفيدة من مناوشات عدة بين الجانبين، من توقيف الموظف التركي في السفارة الأميركية في أنقرة، ضمن حملة الاعتقالات الواسعة النطاق لاجتثاث الإعداء الداخلين (الحقيقيين والوهميين)، إلى ضرب حرس أردوغان للمتظاهرين قرب السفارة التركية في واشنطن، واتهامهم المضروبين بالاستفزاز الدعائي المتعمد، أطلقت العنان لقراءات في الإعلام التركي والداعم لتركيا من وحي أدبيات الحرب الباردة في القرن الماضي، حول المسعى الأميركي إلى تفتيت المنطقة والاستيلاء عليها لمصالحها وخدمة لإسرائيل. القراءة الأسهل، والأقرب للواقع، هي إدراك الطبيعة المستجدة في واشنطن، وربما كذلك العمل على تجييرها. لم يكن لأوباما بالأمس، وليس لترامب اليوم، رؤية شاملة للحل في سورية. ترامب ورث عن أوباما فراغاً في التصور يسمح للترتيبات الميدانية أن تظهر وكأنها موقف سياسي، ولم يُقدم على ما يبدل الوضع. يمكن بالطبع الافتراض أن هذا الإحجام مقصود، إلا أن مراجعة الإحجامات المتراكمة في مختلف الملفات الداخلية والخارجية يبين بأن التفسير الأصوب له هو أن المسألة لا تبلغ حد الخطورة أو الأولوية التي تلزم فريق ترامب التطرّق الفوري إليها. فبدلاً من اعتبار أن تقصير واشنطن خبث مبطّن والطعن به سرّاً وعلناً والتلويح بارتباطات بديلة بالخصم الروسي، كان في وسع أنقرة أن تملأ الفراغ وتقدم البدائل، من جديد ومن دون التشكي من أن هذا الجهد لم يكن مجدياً مع أوباما، وكان ممكناً بالتالي لفرص النجاح في تقريب وجهات النظر أن تكون أكبر. فأنقرة تضيّع الفرصة بوضع الشروط المسبقة المستحيلة، مثل الإصرار على التسليم الفوري لغولن، في حين أنه لا بد لها من الإدراك بأن النظام القضائي في الولايات المتحدة ليس أداة بيد السلطة التنفيذية، فهي إن لم تبلغ مستوى إقناع الجهات القضائية بتوافر الأدلة حول ضلوع غولن نفسه بالعملية الانقلابية، وبتحقق الشروط المرعية لجواز تسليمه، فإنه لا تسليم البتّة. أيهما واشنطن، تلك التي تضمر العداء لأنقرة وتتحالف مع خصومها وتحمي أعداءها، أو تلك التي تعاني من القصور في الرؤية السياسية وتحفل بالضوابط العدلية لصون حق المواطن والمقيم؟ الإجابة عن هذا السؤال من شأنها أن تحدد معالم العلاقة بين العاصمتين. فإن رسا خيار أنقرة على التصور الثاني، كان المجال متاحاً للعودة بالعلاقات إلى طبيعتها، أما إذا استمر الإصرار على التصور الأول، فمن شأن أنقرة أن تساهم بدفع واشنطن إلى المزيد من التباعد معها.

مشاركة :