فيلا صغيرة في مدينة جدة، في شارع فرعي هادئ، ذكرتني بالمحترفات الفنية التي تحتضنها البحرين، حيث عشاق الفن لهم عوالمهم الخاصة، التي لا تشي بما تجترحه من جنون وتقدحه من جنوح إلى الأعالي. سور خشبي صغير منخفض، وباب مشرع على صالون ضخم، مؤثث على عجل، يذكرك ما أن تبصره بنص محمود درويش «ليس للكردي إلا الريح»، عندما يصف عوالم الشاعر والروائي سليم بركات، قائلا «منزله نظيفٌ مثلُ عَيْن الديكِ. منسيٌّ كخيمة سيّد القوم الذين تبعثروا كالريش.. سَجَّادٌ من الصوف المجعَّد، مُعْجَمٌ مُتآكل، كُتُبٌ مُجَلِّدةٌ على عَجَل، مخدّاتٌ مطرَّزَةٌ بإبرة خادم المقهى». روح الفنان وهدأته تحوم حواليك، عبر عشرات اللوحات والصور والأفلام والخرائط والكتب والتسجيلات والمقتنيات، وجميعها تثير فيك الرغبة في الاكتشاف وولوج هذه العوالم المغرية! في الداخل كانت مساحة أخرى، يستخدمها الصديق محمود صباغ لتصوير أجزاء من أعماله السينمائية. فيما كان الفنان أحمد ماطر يسرد علينا ما اصطادته عدسته من تأريخ مكة. المدينة العتيقة التي يحمل الصباغ ذاكرتها بين جنبتيه، وهو المأخوذ بالسرد وغوايته، قبل أن تدهشه كاميرا السينما إلى مغامراتها التي لا تنتهي. كان اللقاء فرصة للنقاش عن الفنون ومستقبلها في المملكة. وعن الجيل الجديد الذي يود أن يعبر عن ذاته بطريقة غير تقليدية. طرائق تتجاوز السائد في المجتمع، وتجعل إمكانية التعدد وإظهارها شأنا مقبولا، بل واجبا، يظهر هذا المشهد الكبير للأفكار في مجتمع باتساع أفق السماء. الفن ليس مجرد أعمال رتيبة، رسومات، صور، مقطوعات بصرية وسمعية، تؤثث بها الأمكنة، أو تزين بها الشوارع والميادين. هو ليس قطعة التوت التي تتوسط الطبق. لأن الفن يرفض التعاطي معه بوصفه أمرا تكميليا، إضافيا، يكون للوجود ماهيته دونه. فالفن، جزء أصيل من المشهد، لا تتحقق الحياة إلا به. الفن هو أسلوب حياة. ثقافة قائمة بذاتها، لها فلسفتها، نظرياتها، شأنها الخاص، والذي له أدواته وأهدافه. وإن كان الفن في مفهومه الأكثر تجريدا، يرفض أن يكون طيعا، أداتيا، أو منصاعا خلف أهداف محددة، وإلا فقد عفويته، وزال عنه الكثير من جماله. من هنا تأتي أهمية مبادرة «معهد مسك للفنون»، الذي يرأسه أحمد ماطر، ليكون فضاء لمئات من السعوديين المبدعين، يدعم مشاريعهم، ويهبهم القدرة على اجتراح أفكار جديدة، وولوج تجارب مع ثقافات مختلفة، داخل المملكة وخارجها. «التواصل الحقيقي بين الكائنات لا يتم إلا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق اللاتواصل الظاهر، عن طريق التبادل الملغز والخالي من الكلام»، هكذا يقول إميل سيوران. وهذا بالتحديد ما تقوم به الفنون. هي جسور غير مرئية للتواصل بين الكائنات، تمد هذا الكون بقوة وطاقة، تعجز عنها الكثير من القوى الأخرى، بل، لا تستطيع أن تجاري الفن فيما يجترحه!
مشاركة :