بيرس كطائر مهاجر يبحث عن قصيدة تضيء عتمة الكون

  • 10/29/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

استطاع سان جون بيرس وهو شاعر وديبلوماسي فرنسي وحاصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1960 ان يحفر اسمه في سماء الشعر بالتحليق بين ثنايا الطبيعة واستلهام جمالها ونضارتها لمعانقة معاني الحرية والحب والطهارة في أعماله الادبية. وفي العشرين من شهر سبتمبر/أيلول 1976 فقدت فرنسا بيرس ويعتبر واحدا من أعظم شعرائها في القرن العشرين. ويبدو سان جون بيرس وكأنه الطائر المهاجر بين الضفاف بحثا عن القصيدة التي تضيء في عتمة الكون. وهو دائم البحث عن "المكان الجليّ اين فيه تولد القصيدة من لا شيء"، وفيه يكون العدم هو جوهر الشعر". وفي مجموعاته الشعرية على غرار "أناباز"، و"ثلوج"، يصبح الشعر عند سان جون بيرس شبيها بمغامرة هائلة معنيّة بهجرة الإنسان، ومنجذبة الى أفق ما يفتأ يبتعد، ويبتعد فلا تتبقّى منه غير ألوانه المتفرّقة هنا وهناك، وآثاره الباهتة. وكان سان جون بيرس يقول بإن أشعاره "تطوّرت خارج القوانين، وخارج الزمن، وكان هدفها الدائم الإنقلاب على أيّ مرجع تاريخيّ، أو جغرافيّ، أو متعلّق بحدث شخصيّ" ويضيف بيرس: "أن المسكن الحقيقي لشعري هو الحب. أمّا قانونه فهو رفض الخضوع والإستسلام، وفضاؤه أيّ مكان. لكن شرط أن يتمتّع هذا المكان بالحرية. وكتب الشاعر والناقد البريطاني كينيث وايت على على سان جون بارس انه رغم فخامة لغته يظلّ دائما منجذبا الى الطراوة والنضارة، وإلى اتساع الآفاق، والى حضور الأشياء المجنحة. إنه الى جانب"المستكشفين، وجائبي البحار، والمترحلين، والذين يلتقون في أعماق المحيطات متشمّمين الفكرة الجديدة التي لها طراوة العدم". وقالَ بيرس: بشرتي بلون التبغ الأحمر، وقال لآخرين بلون بشرة البغل حين عزمَ الكتابة على الباب ولم يكن بعد عائدا من الحقل لأنهُ كانَ يجمع حكايا من زريبة الحيوانات ويسأل بين الحين والحين من يراه: من أين أمسك سوطي وحصاني لا يهدأ، وفي أي إتجاه أضع قبعتي والأمطار من جميع الإتجاهات ولعل مراكز الإختمار في مخيلته تماسكت في وعيها وأحاطت بالشكل العام لصوره المؤثرة وبدأ يتحقق من قبولها الأولي للوصول الى نهايات بحثه الشاق وجمع ما استطاع من الأشياء الكافية بصحبة حقائبه التي حملتها القردة. ويدور في باله أن ليس هناك لحظة معينة لأنه لم يتشكل من لحظات فأجازت له اللغة سريتها فأصغى إصغاءً تاما لمشاهده الأحلام التي لم تروَ وكذا لانفعالاته مع الطبيعة، فصاح بالبحر استدر وللجزيرة قفي هذا مسائي الوحيد الذي رأيته من العدسة المربعة قبل عشرين عاماً، ولصوته أنك تُشبه أصوات الكلاب. ذلك التسامي هو ذروة البلوغ مع الأشياء الفريدة والإطمئنان لحسه النغمي والذي فتح أمامه شاشة الحواس وشواغلها الخفيّة (الببغاء – المصباح - مظلة الماعز - البزرة الإرجوانيّة – صانع التقاويم - البحر المقفل في رأس السمكة - أغنية أنا باز..). علاقات أخرى وأخرى نظمها للأزمنة ليعيد من خلالها هيكلة مدينة بقيّت على وجوه أسلافها وجزيرة بسكانها إبتلعها البحر والرجوع لحاسة واحدة من حواسه فقدها وهو يعلم لا تعود، حينها لم يجد من مناص من الإنشغال والضبابية ومكاشفة موجوداته التي تحلل قسم منها عندما رُشحت في مصافي الدهليز المظلم ورأى أمامه الأشباح تتراقص والجان تقرع الطبول والسحرة يحرقون أوراق الأشجار. فهو يريد أن لا يتذكر منتصف الليل المزهوّ بالحمى ولا رنين البعوضة الذي يرتبط ببعدٍ تاريخي ولا أقراط الجدة حين احترقت المراكب ولا ليلة موت عازف الرصيف لأنه لا يود أن يعيد تذكر الوقائع إيرادا أو إنتاجها بلونية جديدة. فهو يرى إن الإنطلاق من مكامنها الوجدانية هي الطريقة الأنسب لتجييش النفس وإبقائها في مراتبها الرفيعة ان كان النهار نابضا بالحياة أو مرتديا ثوبا عتيقا تفوح منه رائحة الثوم كونه جس مجسات كثيرة حين كتبَ "المنفى وقصائد أخرى". لقد غيّر بيرس في مجموعته الشعرية قيمة الأشياء فالهادئة منها نقلها الى عاصفته وعلّقَ الشباك بالجورب الأبيض وساعة الظهيرة الأكثر رنينا رشها بالسواد ورأى أن هناك أشياء أكثر من ثمينة في زنابير التفاح وفي اليدين البيضاويين التي أصابهما البَرص وفي مجرى المياه الآسنة التي يختلط فيها الدهن مع البول، لأنه يعتقد أن كل الأشياء غير المرغوبة لا فرق بينها وبين العقيق الأحمر.

مشاركة :