عندما يختار الكاتب والأديب والفنان مواضيعه لا يكون اختياره عشوائياً، بل هناك حضور ذاته ووجدانه؛ إذ تجد تطابقاً شبه تام أو علاقة ما تتكوّن على المستوى النفسي والعاطفي من شخصية كل واحد منهم ومواضيعه، وكذلك مقولاته ومراميه، سواء أكانت علاقة تجاذب أو كانت علاقة تنافر. ولعله ليس عبثاً القول بأن من أهم مقومات حضارات الأمم في عهود نهضتها وازدهارها هو ذلك الحرص الذي يكون لأبنائها من المفكرين والعلماء والمبدعين متجاوزين بذلك عمرهم في الفرد إلى عمرهم في الأمة؛ حيث الحضارة وعبر تواصل وتراكم جهود الأفراد بكل أحدهم جهد الآخر. وفي هذا السياق تدخل مواضيع ومقالات كتاب "أريج الزهر" للشيخ مصطفى الغلاييني فارضة نفسها علينا، تنطق بحالة صاحبها الروحية، مستدعية إعمال مخيّلتنا وفكرنا، بل ويمكن القول إننا بذلك قد استطعنا "الإفلات من سجن الجسد إلى فضاء الروح". يحدثنا الشيخ الغلاييني في مقاله: "أيها الإنسان" لست ذلك الكائن الحيّ النامي ولا هذه الهيئة وتلك التقاطيع، بل أنت ذلك الجوهر السامي المجرد عن المادّة، الهابط على هذا الهيكل من المحل الأرفع والمكان الأمنع، ولولاه لما كان لهذه الهيئة ما لها من التمييز عن الموجودات كافّة، فأنت في الحقيقة ابن السماء لا ابن الأرض وأصلك من العلاء لا من الحضيض، وما وجودك على سطح هذه الكرة إلاّ وجود ضيف، عن قريب يرحل، ويرجع إلى الأرض التي فيها نشأ، ومن تُربها نبت، فما بالك قد ادّعيت التملّك، وزعمت أنك كلُ شيء وأنت لا شيء؛ لأنك تحرجك البعوضة، ويقلقك الوهم، ويحرمك المنام البرغوث؟! أهكذا يكون شأن من يخال أنه على كل شيء قدير؟؟ إن هذا الأمر نكير! ألست أنت الذي تأكل وتشرب وتمرح وتلعب وإن هاجتك الغُلمة هدرت دم شرفك دون تكسينها؟ ألست الذي إن أصابك زكام، قلت غداً أشرب كأس الحمام؟ ألست الذي إن أصابك مصيبة، ناديت بالويل والثبور وعظائم الأمور؟ ألست الذي إن لم يجد ما يأكل أو يشرب خارت قواه وانحلت عزائمه، وعلم أنه ضعيف حقير؟ ألست الذي إن أصبح فقيراً معدماً، ذهب ما كان له من المقام الرفيع وبلي ثوب كبريائه وعظمته، فالتجأ إلى مَن كانوا إليه يلتجئون وطلب منهم الإحسان إليه، كما كانوا منه يطلبون؟ عارة مُستردة إذن، فليس لك من الأمر شيء، وما أنت إلاّ كائن ضعيف فإن وكل ما في يدك عارة مُستردة، فإيّّاك أن تتصرف بها أو تدّعي تملّكها، فما هي إلا وديعة لديك. فأحسن القيام على ما استودعت واحفظ كرامة الموُدع، وإلا انتزعها منك قسراً وتركك حائراً بائراً، لا تقوى على شيء، ولا يعطف عليك أحد. إيه أيها الإنسان!ما هذه الكبرياء التي تلبسها؟ وما تلك العظمة التي تتقمّصها؟ على من تتكبّر؟ وعلامَ تتعاظم؟ الأجل أنك ربّ مال وفير، وعقار كثير، وخدمة وأثاث وقصور ذات رياش؟ انظر إلى مَن عليهم تتكبّر؟ وفيهم تتحكم، هل هم إلاّ أناسيّ مثلك، يأكلون كما تأكل، ويمشون كما تمشي، لهم جسوم مثل جسمك، وأرواح، وريثما فصلوك بعقولهم، وبزّوك بآدابهم، وعلوك بأخلاقهم، وطاولوك بشهامتهم، وطالوك بكبر نفوسهم وصفاء سريرتهم وطهارة سيرتهم، وفاقوك بحسن خبرهم وطيب حُبرهم! ولمثل ذلك فليعمل العاملون، وبمثله فليفتخر المفتخرون. ما يضرهم أن لو كانوا ذوي ثياب رثّة ومال قليل، إذا زادت نفوسهم حُلى الفضائل، وكملتها نبالة الشمائل، كما قال الإمام الشافعي في أبيات رددها: عليّ ثياب لو تُباع جميعها ** بفلس لكان الفلس منهنّ أكثر وفبهنّ نفس لو تقاس بقدرها ** نفوس الورى كانت أجل وأكبر وما ضر نصل السيف إخلاق غمده ** إذا كان غضباً حيث وجهته يرى قيمة المرء ما يُحسنيتابع الكاتب مخاطباً الإنسان..المرء يا هذا "مخبوء تحت طيّ لسانه، لا تحت طيلسانه" وهو قيد أعماله، لا قيد أمواله، فمن كرمت نفسه كرم عمله، ومن سفُلت نفسه سفُل عمله، وكل امرئ بما كسب رهين. ماذا يفيدك أن لو حييت حياة الملوك، وأنت غير مالك نفسك؟ بل ماذا تنتفع أمتك من وجودك إذا كنت لا تُحسن إليها؟ أتظن أن أموالك تزينك وأن ملبسك يعليك وحسن هيئتك تُسميك؟ إنك إذن لمن المخطئين. أتزعم أن الفقير ذا الخلق العظيم أقلّ منك مقاماً وأدنى منزلة؟ إنك إذاً لمن الظالمين. قيمة المرء ما يحسن، فإياك أن ترجو المنزلة السامية في الدنيا والمقام المحمود في الآخرة، إذا لم تخدم قومك وتسع في إنجاح وطنك فإنك أن سعيت وخدمت، تتنبه بعد الخمول وتُحمد بعد الندم. أيها الإنسان.. إنك خُلقت لأمر، لو علمت خفيّه.. خُلقت لما هو أسمى ممّا يخطر ببالك وأعلى مما تتصور، فانزع عنك ثوب الرياء واخلع رداء الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتهبط مصراً غير مصرك، فإن فيها ما سألت من النعيم الظاهر واللذّة الحاضرة، غير أنك تندم بعد ذلك حيث لا ينفعك الندم، ولا تغنيك "ليت ولعلّ". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر ش تحرير الموقع.
مشاركة :