خلال تواجدي في دبي مؤخراً لحضور القمة العالمية للحكومات في دورتها السادسة، التقطتُ صورة للذكرى مع بعض المشاركين من الشقيقة السعودية ثم وضعتها على حسابي في التويتر، فإذا بأحد المتابعين يعالجني بتغريدة يُشمُّ منها رائحة السخرية قال فيها: «كل هذا جميل لكن ما هي الفائدة العظيمة التي خرجتم بها من هكذا مؤتمر؟» بطبيعة الحال الأخ المغرد لا يلام لأنه والكثيرين غيره اعتادوا على مؤتمرات عربية لا تؤخر ولا تقدم ولا فائدة حقيقية تُرتجى منها. غير أن الأوضاع في المؤتمرات والمنتديات التي تقيمها حكومة دبي مختلفة كلياً عن تلك التي تعودنا عليها، بنفس قدر اختلاف مشاريع النهضة والإنماء والتعمير والابتكار التي تخوضها دبي ودولة الإمارات عموماً. ولو أن المغرد الكريم تحامل على نفسه قليلاً وفتش من خلال محرك غوغل للبحث عن «القمة العالمية للحكومات» لأتاه العلم اليقين. فهذه القمة السنوية ليست قمة للرؤساء أو الوزراء، وإنما هي منصة عالمية لإيجاد حلول مستدامة لمشاكل مستعصية (طبقاً لرئيسها معالي الوزير الصديق محمد عبدالله القرقاوي)، بل هي قمة للعقول المبدعة التي تجتمع تحت سقف واحد لاستشراف آفاق المستقبل وصناعته وتناول كل ما يهم البشرية في العقود المقبلة في شتى مناحي الحياة، خصوصاً في ظل التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة في الكون والتي سوف تغير ــ دون شك ــ شكل مجتمعاتنا البشرية الحالية نحو الأفضل. ومن هنا فإن التواجد في محفل عالمي كهذا وبحضور 4 آلاف مدعو منتمين إلى نحو 140 دولة ومتخصصين في مختلف مجالات المعرفة (سياسة واقتصاد ومال وتعليم وزراعة وهندسة وطب ونقل وتكنولوجيا واتصالات وغيرها) لابد وأنّ من ورائه فائدة لا تقدر بثمن، شريطة حرص المرء على حضور جلسات المؤتمر ليس بالجسد فقط وإنما بالجسد وكامل الحواس مع الانصات الدقيق والمتابعة المستمرة، على نحو ما يفعله الإنسان الياباني مثلا الذي اعتاد في مثل هذه الحالات على اصطحاب مفكرته الورقية أو الالكترونية معه ليسجل فيها كل كلمة يسمعها من فم المحاضر أو المشارك في المنصات الحوارية، أي على العكس تماماً من بعض المدعوين الخليجيين والعرب الذين غابوا عن حضور معظم الجلسات وتصرفوا كما لو كانوا في سياحة مدفوعة الثمن. لقد خرجت، كما غيري، من المشاركة في قمة هذا العام بفوائد كثيرة لا يمكن سردها في هذه المساحة الصحفية الضيقة. لكن يمكنني القول: من ذا الذي لا يستفيد وهو يجلس أمام زعيم مثل رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي (ضيف شرف قمة هذا العام) وهو يتحدث عن التجربة الهندية ــ التي قال عنها راعي المؤتمر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «التجربة الهندية ملهمة ورئيس الوزراء الهندي قائد أحدث تغييرا والأمة الهندية لها بصمتها» ــ أو وهو يسرد سرّ نجاح بلاده خلال السنوات الماضية في الانتقال من دولة متخلفة إلى بلد من بلاد العالم الصاعدة اقتصادياً وتجارياً وعسكرياً وعلمياً وتكنولوجياً وفضائياً ضمن نظام تعددي ديمقراطي مستقر لا مجال فيه لمغامرات العسكر الذين دمروا الأوطان بطموحاتهم السلطوية وغرائزهم العبثية. ثم من ذا الذي لا يخرج بفائدة من الجلوس في حضرة مسؤول عربي شاب مثل الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية دولة الإمارات ورئيس مجلس التعليم والموارد البشرية فيها، وهو يخوض في هموم التعليم حاضراً ومستقبلاً، مؤكداً أن ما يجري اليوم في الكون سيلقب كل المعادلات خلال السنوات القليلة المقبلة على صعيد المعلم والطالب والمنهج ومخرجات التعليم والوظائف التي تنتظرها، وبما يعني ضرورة الاستعداد للمرحلة المقبلة بإحداث ثورة في البرامج التعليمية وأدواتها وأهدافها واكتساب المهارات النقدية وخوض الطلبة معارك التنافس مع أقرانهم في الدول المتقدمة واستخدام الذكاء الاصطناعي لتسهيل الدمج المجتمعي لأصحاب المواهب والهمم، مضيفاً بلهجة حاسمة إن معلم اليوم إذا كان مقتنعاً بما عنده ولا يرى ضرورة لتطوير نفسه فلابد أن نقول له «لا مكان لك بيننا»؟ ومرة أخرى من ذا الذي لا يستفيد وهو يستمع إلى حوار حول «الدول الافتراضية الجديدة وإعادة كتابة التاريخ» مع «فرانسيس فوكوياما» عالم السياسة وخبير الاقتصاد الذي شغل العالم بنظريته حول صدام الحضارات؟ وعلى المنوال نفسه من ذا الذي لا يستفيد من الإصغاء إلى فيزيائي قدير مثل عالم المستقبليات الامريكي «ميتشيو كاكو» وهو يصول ويجول فيما تحمله لنا السنوات العشرون القادمة من اكتشافات مذهلة على صعيد إطالة عمر الإنسان، وتحول الكمبيوترات الحالية إلى كمبيوترات بحجم حبة الإسبرين، والاستفسار من عدسات نظارتك أو ساعة معصمك عن كل ما يحلو لك، والتحدث إلى مقود سيارتك لتنقلك حيثما تشاء، أو التحدث إلى ورق حائط غرفتك كي يغير لونه ونقوشه، والحصول على أحذيتك وملابسك ومجوهراتك بالتصاميم التي تفضلها وأنت في غرفة الانتظار، والسفر من نيويورك إلى دبي في غضون ساعتين بواسطة طائرات أسرع من ضعف الصوت مختلفة عن الكونكورد التي صممت يوم كانت الكمبيوترات ديناصورية، واحتفاظ ذاكرتك بكل المناسبات التي مرت عليك، بل بكل الأحلام التي حلمتها في منامك من خلال زرع رقائق دقيقة في دماغك، أو الكشف عما يعانيه بدنك دون الذهاب إلى المستشفيات وإنما من خلال قطع اليكترونية مدمجة مع كراسي دورات المياه تقوم بالكشف والتحليل خلال ثوان معدودة. ولا شك إن الفائدة تزداد وتتضاعف حينما تكون الجلسات الحوارية بإدارة مذيع لامع يمتلك خبرة فذة في سبر أغوار ضيوفه، بطريقة تجمع ما بين الجد والطرافة مثل مذيع سي إن إن «ريتشارد قيست»، وهو ما حدث وأسعد الجميع.
مشاركة :