ستيفن زفايج.. يعود إلى دائرة الضوء

  • 10/28/2014
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

«حذار من الشفقة»، «رسالة من امرأة مجهولة»، «لاعب الشطرنج».. من فينا يستطيع أن ينسى هذه الأعمال القصصية للروائي النمساوي ستيفن زفايج (1881 - 1942) التي ربما نكون قد قرأناها في صدر الشباب فخلفت فينا أثرا لا يمَّحي رغم مرور الزمن وتراكم الخبرات؟ لدينا شهادتان على الأقل على الأثر الذي خلفه زفايج في قرائه من المثقفين العرب؛ الشهادة الأولى لأستاذ الفلسفة الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي كتب فصلا عن زفايج في كتابه «الموت والعبقرية» تحت عنوان «عبقري ينتحر». والشهادة الثانية من أديب قاص هو يحيي حقي في مقدمة ترجمته لنوفيلا زفايج «لاعب الشطرنج» فليرجع إليهما من شاء. واليوم (2014) يتجدد الاهتمام بهذا الأديب ذي المذاق الفريد - وإن لم يكن تماما من أعلى طبقات الفن - مع صدور كتاب عنوانه «المنفى المستحيل: ستيفن زفايج عند نهاية العالم». The Impossible Exile: Stephen Zweig at the End of the World وهو صادر في الولايات المتحدة الأميركية عن دار نشر «آذر برس» في 390 صفحة (إلي جانب عدد من الصور الفوتوغرافية) من تأليف جورج بروتشنك George Prochnik. يتناول الكتاب السنوات الأخيرة من حياة زفايج. ويوضح كيف أنه كان شخصية متعددة الأبعاد، تجمع بين الشيء ونقيضه. لقد قال الشاعر الأميركي ولت ويتمان (وكان زفايج معجبا به) عن نفسه: «أأنا أناقض نفسي؟ حسن. إني أناقض نفسي. إني رحيب الذات أتسع لعوالم كثيرة». وزفايج هو الآخر كان حزمة من المتناقضات. يصفه مؤلف الكتاب بأنه مواطن نمساوي غني، يهودي متجول لا يعرف الراحة، كاتب غزير الإنتاج، مدافع لا يكل عن المذهب الإنساني الأوروبي، فريسة للهستيريا في بيته وعائلته، داعية نبيل للسلام، حسي النزعة، محب للكلاب، كاره للقطط، مولع باقتناء الكتب النادرة، لابس حذاء أنيق من جلد التمساح الأميركي، غندور، مكتئب، محب لارتياد الملاهي، زير نساء على نحو عارض، ميال (فيما تتجه الشكوك) إلى كشف بدنه على نحو فاضح، متملق للأقوياء، نصير للضعفاء، جبان ذليل أمام التغيرات التي تجلبها الشيخوخة، ولكنه راقٍ شجاع أمام الموت. وليست هذه إلا قائمة مصغرة بمتناقضاته. يتوقف الكتاب عند محطات زفايج منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي. إنه ينتقل مع زوجته الأولى فردريكه ثم مع زوجته الثانية لوته (كانت سكرتيرته قبل أن يتزوجها في 1939) ما بين مدينتي لندن وباث في إنجلترا، وفندق ويندام في مانهاتن بنيويورك، وكوخ مستأجر في أوسينج بنيويورك، وأخيرا في مدينة بتروبوليس في البرازيل ذات الجو الرطب. وفي غمرة هذه التنقلات المستمرة - حزم الحقائب وأفرغ محتوياتها، نهاية زيجة وبداية زيجة أخرى، يتمكن على نحو باعث على الدهشة من مواصلة إنتاجه الغزير. إن له - إلى جانب رواياته وأقاصيصه وقصصه متوسطة الطول - 3 مسرحيات أهمها «أرمياء» (وهي تستوحي التوراة لكي تدين الحرب)، وترجمات للشاعر الرمزي الفرنسي بول فرلين والشاعر البلجيكي إميل فرهارين، وقصائد غنائية، وترجمة لمسرحية الكاتب الإنجليزي بن جونسون «فوليوني أو الثعلب»، وسيرة ذاتية بعنوان «عالم الأمس» يصف فيها رحلاته بين المدن ولقاءاته مع مشاهير عصره مثل الشاعر الآيرلندي و.ب. ييتس، والروائي جيمس جويس، والشاعر الألماني ريلكه، وفرويد وغيرهم، وكلمات أوبرا لحنها ريتشارد شتراوس. وليس هذا كل ما أنجزه؛ فقد كان كاتبا بارعا للسير والتراجم، كتب عن ملكة فرنسا التي حزت الثورة الفرنسية رأسها ماري أنطوانيت، والمفكر الإنساني الهولندي إرازموس، والملكة إليزابيث الأولى وشقيقتها ماري ملكة اسكوتلندا في القرن الـ16، والرحالة ماجلان وكازانوفا المغامر الإيطالي صاحب الغزوات الغرامية الكثيرة، وعدد من كبار الأدباء: بلزاك وديكنز ودوستويفسكي ونيتشه وهيلدرلن وكلايست وتولستوي ورومان رولان. وتحفل هذه التراجم بالاستبصارات الفنية النافذة، والقدرة على شد انتباه القارئ، وكأنما هي امتداد لما يصنعه زفايج في أعماله القصصية. ومنهج الكتاب - كما يلاحظ أ. و. سكوت الناقد السينمائي لجريدة «التايمز» البريطانية - يتابع زفايج في تنقلاته المكانية والزمانية؛ فالمؤلف بروتشنك يتحرك على نحو متعرج.. يبدأ في مكان وزمان معينين، ثم يتجول راجعا إلى الوراء أو إلى الأمام في الزمن، يعبر - أو يعيد عبور - المحيط الأطلنطي، أو جبال الألب، أو بحر المانش بين بريطانيا وفرنسا. إنه يبدأ، مثلا، الفصل السابع من كتابه بقوله: «في يونيو (حزيران) 1941 زار ستيفن ولوته أتلانتك سيتي (مدينة أميركية) ظانين أنهما سيستقران بها». غير أننا بعد صفحات قلائل - وبعد ارتداد إلى الخلف لتسجيل جولة زفايج في أميركا عام 1938 - نجده في زيوريخ عام 1939 ثم في إنجلترا عام 1934، ثم يعود بنا المؤلف إلى النمسا في شتاء 1930، ولا نكاد نلتقط أنفاسنا هنا حتى يرحل بنا بروتشنك إلى جزيرة بالمادي ميوركا في 1931، قبل أن يقفز إلى الأمام ليشهد ازدهار قصة زفايج الغرامية مع لوته، وهي قصة «بدأت في شمال أوربا» و«غدت معروفة على نطاق عام في جنوب فرنسا». وعلى طول هذه الرحلة يتحفنا المؤلف بقصص ونوادر وملاحظات، لا عن زفايج وحده وإنما عن كل المحيطين به أيضا. وتتردد في الكتاب أسماء معروفة لدى أغلب القراء، مثل مؤسس التحليل النفسي فرويد، وداعية الصهيونية تيودور هرتزل، وأخرى أقل شهرة مثل الأديب الفرنسي جول رومان والشاعر الألماني كارل كراوس. ولكنهم لا يفتأون يندفعون داخلين خارجين من صفحات الكتاب على نحو محير للقارئ. هنا يتمنى المرء (وأورد هنا كلمات أ. و. سكوت مرة أخرى) لو أن بروتشنك بنى كتابه على نحو أوضح، وتمهل في سيره أكثر. قال جيمس جويس (أو الأدق بطله ستيفن ديدالوس) في رواية «صورة فنان شاب» إن شعاره في مواجهة الحياة هو «الصمت والمنفى والدهاء». لم يكن زفايج يملك هذه الصفات فقد كان على العكس ثرثارا يفتقر إلى سعة الحيلة. ورغم أنه عرف فترات من السعادة في باريس وبرلين وفيينا (على الأقل قبل 1933 حين بدأت النازية تلقي بظلالها على أوروبا) فقد ظل مغتربا أبديا، رجلا بلا وطن، لا يشعر أنه يمسك بزمام حياته بين يديه. أو على حد قول بروتشنك: «لقد جعلت حالة المنفى زفايج يشعر بأنه واقع في شرك قصة أحد غيره. وكان زيف هذا الوضع أسوأ بكثير من احتمال أن يمَّحي كلية من العالم». وفي النهاية لم يعد يطيق صبرا، فانتحر هو وزوجته (ترى كيف أقنعها؟) في البرازيل. والانطباع الذي يخرج به قارئ الكتاب هو أن زفايج - وإن لم يكن من طبقة معاصريه العظماء من أدباء اللغة الألمانية: توماس مان وبرخت - كان مسليا جادا، ومسجلا حاد الملاحظة للطبيعة البشرية وما تحفل به من عادات ونقاط ضعف وأهواء وأخطاء. لقد كان يعيش بعمق كل ما يصفه، ومن هنا كانت قدرته على مخاطبة عقل القارئ وقلبه وأعصابه. أو كما يقول مؤلف الكتاب: «إن الهدية التي قدمها للعالم (كتاباته) كانت تعتمد على الحرارة الحسية السارية في عروقه». كذلك يشير صدور هذا الكتاب إلى أن زفايج - فيما يبدو - على وشك العودة إلى دائرة النور واحتلال مكان بارز في لوحة الأدب الحديث؛ فمن 8 أعوام - في 2006 - صدرت باللغة الألمانية ترجمة وافية لحياته من تأليف أوليفر ماتوتشيك بعنوان «3 حيوات: سيرة ستيفن زفايج» (ترجمت إلى الإنجليزية في 2011). وقبل ذلك في 1947 صدر كتاب من تأليف ف. زفايج عنوانه «ستيفن زفايج: سيرة أوروبي عظيم». واليوم يجيء هذا الكتاب الجديد ليضيف ملامح جديدة إلى الصورة، ويسد بعض الفجوات السابقة، ويزيدنا علما بهذا المراقب الدقيق لأهواء الإنسان ونزواته، ومفارقات الحياة، وضغوط الغريزة الجنسية وشطحات القلب، ومحنة الرجال والنساء في قبضة صراعات العصر الآيديولوجية وصراعاتهم الداخلية على السواء.

مشاركة :