تونس - عاد الملف المالي لحركة النهضة الإسلامية، الذي يُوصف بـ”اللغز الأسود”، ليُلقي بظلاله على التطورات السياسية المتلاحقة في تونس، وسط سجالات متعددة الجوانب، تخطو بخطى حثيثة داخل المنطقة المحرمة التي تخشاها هذه الحركة المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين. وفرض تسريب وثيقة صادرة عن البنك المركزي التونسي يطلب فيها التدقيق في الحسابات المصرفية لحركة النهضة، وعدد من قادتها، إيقاعا جديدا على سير أحداث وتطورات مسار الحراك السياسي في البلاد بشقيه الحزبي والحكومي، تباينت فيه حدة الآراء التي عمقت الخلافات. وتشير تلك الوثيقة التي سُربت الخميس، إلى أن محافظ البنك المركزي، مروان عباسي، وجه مذكرة لكل البنوك التونسية، طلب فيها معلومات مفصلة تخص الحسابات المفتوحة لديها باسم حركة النهضة، وعدد من قادتها، وذلك بطلب من دائرة المحاسبات، التي تُعتبر أعلى سلطة رقابية مالية في تونس. وقالت مصادر متطابقة إن دائرة المحاسبات أحالت على البنك المركزي قائمة تضم حوالي 140 اسما من السياسيين يشملهم قرار التثبت من حساباتهم لدى جميع البنوك. وأثارت هذه الخطوة الارتياح لدى غالبية الفاعلين السياسيين، حيث لم يتردد النائب البرلماني، عبدالعزيز القطي، في وصفها بـ”الخطوة الهامة” التي من شأنها تبديد الغموض الذي يلف هذا الملف الخطير، وتفكيك عناصره، باعتبار أن حركة النهضة تلاحقها شبهة الفساد المالي منذ سنوات. وقال القطي لـ”العرب” إن مصدر أموال حركة النهضة يعد من الملفات المسكوت عنها طيلة السنوات الماضية، وقد حان الوقت لكشف هذا “الملف الأسود”، وذلك تحت ضغط الأحزاب ومكونات المجتمع المدني، لاسيما في هذا التوقيت الذي كشفت فيه وسائل إعلام أجنبية عن رصد حركة النهضة لأموال طائلة لحملتها الانتخابية التي تستعد لإطلاقها. عبدالعزيز القطي: حان الوقت للكشف عن مصادر تمويل حركة النهضة عبدالعزيز القطي: حان الوقت للكشف عن مصادر تمويل حركة النهضة وأشار في هذا السياق إلى ما ذكرته مجلة “جون أفريك” في عددها رقم 3028 الصادر يوم 20 يناير الماضي، عن تعاقد حركة النهضة مع مؤسسة بريطانية للتسويق السياسي والإعلامي باعتمادات تقدر بـ18 مليون دولار للترويج لحملتها الانتخابية في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019. وكانت مجلة “جون أفريك” قد كتبت تقريرا تحت عنوان “النهضة تطلق خطتها الاتصالية” يفيد بأن “الحركة جددت العقد الذي كانت وقعته في العام 2014 مع الفرع البريطاني لوكالة الخدمات الإعلامية والاتصالية، وذلك بقيمة 18 مليون دولار”. وتعاطت حركة النهضة الإسلامية مع هذا الخبر بنوع من اللا مبالاة، رغم النفي الصادر عن الناطق الرسمي باسمها، عماد الخميري، وهو نفي لم يقنع المراقبين الذين رأوا أن ذلك التعاقد يكشف خداع هذه الحركة، خاصة أنه يتعارض مع قيمة ميزانيتها للعام 2019 التي قالت إنها تقدر بـ6.442 مليون دينار (2.385 مليون دولار). وبحسب عبدالعزيز القطي، فإنه بات يتعين على البنك المركزي “عدم الاكتفاء بالتدقيق في حسابات حركة النهضة وقادتها فقط، وإنما عليه الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي فتح ملف تمويل الجمعيات التي يعرف الجميع أن للنهضة شبكة كبيرة منها، وهي تستخدمها كغطاء للحصول على التمويلات الأجنبية التي بلغت أرقاما مفزعة”. ودعا في هذا السياق، كافة القوى السياسية في البلاد إلى مزيد الضغط على مؤسسات الدولة لكشف حقيقة هذا الملف، لاسيما في هذه الفترة التي تستعد فيها البلاد لتنظيم انتخابات تشريعية في أكتوبر القادم، وأخرى رئاسية في نوفمبر المقبل. ويرجح المتابعون للشأن العام التونسي أن يتحول هذا الملف إلى عنوان رئيسي للجدل السياسي في البلاد خلال الأيام القادمة، ما لم تتم محاصرته بالإسقاطات السياسية الهجينة والمفتعلة، لطمسه وإفراغه من محتواه. وتجد هذه الخشية ما يبررها بالنظر إلى الحملة الممنهجة التي تعكسها التحركات السياسية والإعلامية المكثفة لقادة حركة النهضة، في مسعى للالتفاف على تلك السجالات المرافقة لتسريب وثيقة البنك المركزي، وحرفها نحو سياقات أخرى تبعد ساعة الحسم في هذا الملف الشائك، والغامض، الذي أصبح واحدا من الملفات الحادة التي تشغل بال مختلف الفاعلين السياسيين. وفي هذا السياق، أعرب محمد بن سالم، القيادي في حركة النهضة، عن استغرابه من توجيه محافظ البنك المركزي المذكرة المذكورة للبنوك التونسية للتثبت من الحسابات المفتوحة لحركة النهضة وعدد من قياداتها، في حين تم استثناء عدد من النواب وقيادات أحزاب سياسية أخرى. وتساءل في تصريحات نشرت الجمعة قائلا “لماذا تم تطبيق هذا الإجراء على حركة النهضة فقط، في حين أن أحزابا ونوابا وقيادات سياسية بان عليها الثراء في فترة قصيرة؟”. من جهته، اعتبر عبدالحميد الجلاصي، القيادي في حركة النهضة، أن “ما يدعو لشيء من الانشغال، هو ما يروج حول محاولة توظيف ذلك في إطار الحسابات السياسية والانتخابية”. وحذر في تصريحات صحافية من أنه “إذا صح ذلك، فإننا لن نقبل به، وسيدفع المتلاعبون الثمن السياسي المناسب”، مشددا على أن “مصالح الدولة، وهيئاتها ليست لعبة بيد أحد، مهما كان موقعه”. وتعكس تلك المواقف حالة الارتباك داخل هذه الحركة، خاصة وأنها لم تبدد الغموض الذي يحيط بمصدر أموالها، وثروات قادتها الذين ظهر عليهم الثراء بشكل واضح، كما لم تحجب حقيقة أن هذه الحركة تواجه منذ العام 2011، اتهامات مباشرة بحصولها على تمويلات مشبوهة من قطر وتركيا مكنتها من الهيمنة على المشهد السياسي، وذلك في سياق أجندات مرتبطة بالمشروع الإخواني في المنطقة.
مشاركة :