يُقَال بأن الشعر هو ما يضيع في الترجمة، إذ تنتقل المعاني وربما بعض الصور البلاغية والأحاسيس، فيكون هذا أقصى ما قد يبلغه المترجم، مُضيّعاً شاعرية النص. لكن البعض يرى أن هذا زعمٌ خاطئ، فالترجمة مجرد جسر ينقل الشعر بين ضفتين، والشعر ككل فعل لغوي يُمكن ترجمته من لغة إلى أخرى، مجلة «اليمامة» تفتح هذا الملف للبحث حول الجدل المتجدد الذي تثيره ترجمة الشعر من لغة لأخرى، وتسلط مزيداً من الضوء على هذا الملف. تغير النَّظْم وتغير اللغة! في كتابه «دلائل الإعجاز» يقول الجرجاني: «لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ من الشعر، فتؤديه بعبارة أخرى؛ إذ إنه إذا تغير النَّظْم فلا بد حينئذٍ من أن يتغير المعنى»، فإذا كان هذا يخص تغير النَّظْم، فمابالنا بتغير اللغة ذاتها التي كُتِبَ بها الشعر!، فالشعر فيما يقال لا ينفصل عن اللغة التي كُتب بها أصلاً، واللغات لا تختلف في نظمها العروضية فقط، بل تختلف أيضاً في نظمها الصوتية، وهذه النظم كثيراً ما يصعب تقدير تأثيرها في النص الأصلي، يخبرنا المترجم الأردني «محمد أزوقة» بشأن هذا الصدد: «لم تأت عبارة (الشعر ديوان العرب) عبثاً ولا هي من فراغ، لأن الشعر العربي متميز بدرجة مذهلة عن الشعر في كل اللغات الأخرى، فلا الوزن ولا القافية ولا الموسيقى ولا البحور هي الأساس في شعرنا، بل هي البلاغة والصور الإبداعية حد الإعجاز، التي يصوغها الشاعر في بيت واحد، قد يحتاج الكاتب إلى صفحات ليفيه حقه في الشرح، وفي النهاية لا يتمكن من اقتناص لحظة أو عبارة العبقرية في البيت، فالبلاغة الشعرية تجيء عند العرب بالذات من سعة اللغة وعظمتها، فالشاعر قادر على أن يدخل في وجدان المتلقي بكلمات قليلة»، ويضيف: «عندما يحاول المترجم أن ينقل هذا التركيز المكثف إلى لغة أخرى، فإنه يقع ضحية اختلافات واسعة في الرؤى والأخيلة وتركيب الأبيات الشعرية من لغة إلى أخرى، وأركز هنا على لغتنا العربية المتميزة، فلا تأتي الترجمة منصفة للنص الأصلي، والشواهد على ذلك كثيرة، ملأى بالإخفاقات»، ويتابع: «لكن يظل الاستثناء المقبول في هذا المجال هو المترجم نفسه.. إذا كان شاعراً، أو يمتلك الموهبة الشعرية، تصبح فرصته في ترجمة أية قصيدة أفضل من أي مترجم متمرس، لأنه يمتلك الحسّ الشعري المرهف الذي يطلق لخياله العنان ويوظف موهبته في رسم المكان والزمان والمعجزة التي تمثلها القصيدة، ويضع كل ذلك في خدمة القصيدة المترجمة». هل يضيع الشعر عند ترجمته؟! «الشعر هو الذي يضيع في الترجمة»، هكذا يقول الشاعر الأمريكي روبرت فروست، في حين قال الجاحظ: «الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه»، من جهته يقول الشاعر والمترجم السعودي «عبدالوهاب أبوزيد»: «يحلو لي أن أقلب مقولة روبرت فروست وتعريفه الشهير للشعر لأقول إن الشعر هو ما لا يضيع في الترجمة، بمعنى أن جوهر الشعر، وأعني به المشتركات الإنسانية والتجارب الحياتية العميقة، هي ما ينجح في الانتقال من لغة إلى لغة، بخلاف الخصائص اللغوية الدقيقة والجماليات الخاصة والسمات الإيقاعية المرتبطة بكل لغة من اللغات. أتفهم تماماً موقف من يقولون استحالة ترجمة الشعر لأنه مرتبط ارتباطاً بنيوياً وعضوياً وثيقاً بخصائص اللغة التي يكتب فيها وبها (وهذا صحيح تماماً)، ولكن العنصر الأهم من كل ذلك وشرارة الشعر الأولى ومآله الأخير هي التجربة الإنسانية التي لا يكون الشعر بدونها سوى جماليات خاوية لا تعني شيئاً». الملاحظ أن المشكلة الكبرى عند ترجمة الشعر تكمن في طبيعة النصوص والطريقة التي تستخدم بها اللغة من أجل إخراج القصائد إلى النور، فمن النادر أن يجد المترجم كلمات معبرة توازي في التعبير، وتعطي نفس الجرس الموسيقي، لكلمات القصيدة الأصلية في لغتها الأم، وبالتالي قد تضيع روح النص في الترجمة، لذا فإن المترجمين اتفقوا على أن هناك نوعين للترجمة؛ هما: الترجمة الشكلية وتعرف بالترجمة الحرفية التي تقوم على ترجمة المعنى بالمعنى. والأخرى هي ترجمة التكافؤ الديناميكي، أيّ أن يكون تأثير الترجمة على قارئها موازياً تقريباً لتأثير النص الأصلي على قارئه. الترجمة مطلوبة! مالا يدرك جله لا ينبغي أن يترك كله، فصحيح أن القصيدة الراقية يكاد يكون من المستحيل أن ترقى ترجمتها إلى نفس مستوى النص في لغته الأصلية، لكن هذا لا يمنع من ترجمة الأشعار كي يطلع عليها أصحاب اللغات الأخرى. يقول الشاعر والمترجم «نزار سرطاوي» في هذا الصدد: «في ترجمة الشعر قيل الكثير والكثير، لعل أبرزها مقولة (المترجم خائن) التي جاءت على لسان الإيطاليين تعبيراً عن حنقهم على بعض المترجمين الذين نقلوا دانتي إلى الفرنسية، فكانت ترجماتهم تفتقد إلى الدقة أحياناً وإلى الجمال أحياناً آخر، لكن في رأيي فإنه لا مفر من التسليم بأن ترجمة الشعر تعجز عن نقل النصوص نقلًا يحافظ على ملامحها جميعاً. لكننا برفضنا للفكرة نحرم القارئ العربي من قراءة النصوص الشعرية العالمية، ونحرم الشاعر العربي من الانطلاق إلى الآفاق العالمية»، ويضيف سرطاوي: «كم كان العالم سيخسر لو أحجم المترجمون الأوروبيون عن نقل الأعمال الشعرية اليونانية والرومانية القديمة بما فيها الملاحم والمسرحيات!، وكم كنا سنخسر لو أحجمنا عن نقل تلك الآداب، أوعن نقل دانتي وبوكاشيو وشكسبير وغوته وبودلير ورامبو وطاغور ونيرودا وسواهم إلى العربية»، ويتابع: «أنا شخصياً أعتز بأنني ترجمت آلاف القصائد الأجنبية إلى العربية، وترجمت لعشرات الشاعرات والشعراء العرب إلى الإنجليزية، وبعض هذه الترجمات نشر في كتب وأنثولوجيات شعرية ومجلات أجنبية ورقية وإلكترونية في أمريكا والهند وإيطاليا وسواها. الشاعر الإيطالي ماريو ريلي نقل بعض ترجماتي من الشعر العربي إلى الإيطالية، ولحنها وغناها الموسيقار الإيطالي فابيو مارتوليو. فإن كان ما قمت به خيانة، فما أروعها من خيانة!».
مشاركة :