تنشط الحياة الثقافية بشكل مختلف ونسق متسارع في المدن التي يجري اختيارها عواصم للثقافة الإسلامية. غير أنّ هذه القاعدة قد تشذّ عنها المحرّق عاصمة الثقافة الإسلامية للعام 2018، ذلك أنّ هذه المدينةَ العريقة جذورُها ضاربة في الاهتمام بالشأن الثقافيّ إن لم تكن هي المؤسسة والحاضنة الكبرى للثقافة في مملكة البحرين ومنطقة الخليج العربيّ. فالمحرّق، لمن لا يعرفها، شريان الثقافة في البحرين إذْ لا تتوقّف فيها الفعاليّات الثقافيّة ولا يمكنك أن تحصيها عدداً بفضل النشاط الثّقافيّ للمجالس والمراكز الثقافية والشبابيّة والمؤسسات التعليمية. وتمثّل هذه الفضاءات هذا العام داعماً ورافداً رئيساً، وعن غير قصد أحياناً، للفعاليات الرسمية المبرمجة للاحتفاء بالمحرّق عاصمة ثقافية. لذا سيكون الحديث هنا عن الفعاليات الثقافية الموازية ودورها في تنشيط الساحة الثقافية المحرّقيّة. مما لفت انتباهي خلال شهر فبراير بالمحرّق فعاليّتان ثقافيّتان بارزتان، أدخلتا حركية غير معتادة على الفضاءات التي انعقدت فيها، وأعنى بذلك الأمسية الثقافية التي نظّمها مركز الجزيرة الثقافي في مسجد سيادي في الرابع عشر من فبراير عن مساجد المحرّق، وفعاليّة اليوم الثقافي العربي والعالمي التي نظّمها قسم اللغة العربية بالمدرسة الفرنسيّة بالبسيتين في العاشر من فبراير الماضي. فلقد بيّن الباحث والإعلاميّ صلاح الجودر في محاضرته التي حملت عنوان (مساجد المحرّق.. تاريخ وآثار) حالة تطور دور العبادة في مدن وقرى جزيرة المحرّق، الحد وقلالي والدير وسماهيج وعراد وحالة النعيم والسلطة والبسيتين وحالة بوماهر بالإضافة إلى العاصمة القديمة (المحرّق). كما استعرض تاريخاً طويلاً لامس به وجدان الحاضرين ودغدغ معه ذاكرتهم الثقافية وجاب بهم فرجان المحرّق وقراها عبر خارطة المساجد فيها مستحضراً أسماء الأئمة والمؤذنين وخطباء الجمع مما أسعفه به الجمع والتنقيب على صعوبته. لقد كانت هذه الأمسية خير مناسبة التقى فيها سكّان المحرّق وأحبابهم من المقيمين ومن أبناء المحافظات الأخرى، ومن المحرّقيين الذين غادروها إلى محافظات أخرى، وكذلك أشقائهم من المملكة العربية السعودية وغيرهم... التقوا في باحة مسجد سيادي هذا المعلم التاريخي الديني الذي يحكي إحدى أروع قصص بناء المساجد في المحرّق العتيقة، فكان اللقاء يعبق برائحة التاريخ أذكاه عطر الحضور المتنوع والمتعدّد من الرجال والنساء والشباب. ولكن حضور بعض الأصدقاء من الجمعية البهائية الاجتماعية للعمل والتعاون أعطى لهذا اللقاء رونقاً وأكّد من جديد أنّ المحرّق تجمع ولا تفرّق، وأنّ هدفاً من أهداف عاصمة الثقافة الإسلامية يتحقق من خلال هذه المشاركة للبهائيين بوصفهم مكوّناً من المجتمع البحريني ممّا يعزّز مقدار التسامح والتعايش بين أبناء الوطن. أمّا فعالية اليوم الثقافي العربي والعالميّ والتي انتظمت بالمدرسة الفرنسية بالبسيتين فقد شهدت هي بدورها إقبالاً متنوّعاً، فإلى جانب تشريف كل من النائب د. علي بوفرسن، ومحمّد آل سنان رئيس مجلس المحرّق البلدي، والإعلاميّ الناشط الاجتماعي الزميل صلاح الجودر بحضورهم افتتاح هذه الفعالية، فقد مثّلت المناسبة لقاءً ثقافياً بين عادات وثقافات عربية إسلامية، وشرقية آسيوية، وأخرى غربية أوروبية، تحت عنوان واحد (نغنّي للحبّ). وقد ازدان فضاء المدرسة وتجمّل بالقصائد والأغاني وصور الشعراء والفنانين الملهمين وغير ذلك مما يعبّر عن ثقافة كل بلد مشارك. وقد بيّنت منسقة اليوم الثقافي العربي والعالمي أستاذة اللغة العربية «منى أحمد عبد الهادي» أنّ هذه الفعالية تأتي لمزيد تمتين عرى النسيج الثقافي المتنوع داخل المدرسة، كما أكّدت أنّ هذه الفعالية ليست سوى صورة مصغرة عن مدى التعايش والتسامح الذي نعيشه في المحرّق ومملكة البحرين كاملة. وإذْ نستحضر هذه الفعاليّة أو تلك، فلكونها مجرّد مثال للحراك الثقافي الموازي في المحرّق خلال سَنَة الثقافة الإسلامية. ولا شكّ أن برامج مركز الشيخ إبراهيم الأسبوعية والفصلية، وما تحفل به المجالس دوريا من خلال أنشطتها الثقافية والاجتماعية لَدليل قائم على المدى الواسع باتساع الأفق للنشاط الثقافي في المحرّق. ولعلّي باستحضار نموذج المدرسة الفرنسية أهمس بلطف إلى المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة في مدينة المحرّق حتى تحتفي بالمحرّق عاصمة للثقافة الإسلامية على طريقتها؛ إذ من الجميل أن تتحرك اللجان الثقافية في المدارس وكذلك في المراكز الثقافية الأخرى لتخص «مناسبة المحرّق عاصمة للثقافة الإسلامية» بفعالية خاصة من ابتكارها، وبالتوازي مع الاحتفالات والفعاليات الرسمية التي هي من شأن لجنة التنظيم العليا للمحرق عاصمة للثقافة الإسلامية. إنّه لا يجب أن تمرّ هذه المناسبة العزيزة دون أن يستشعرها القاصي قبل الداني، المقيم قبل المواطن، الصغير قبل الكبير، غير المسلم قبل المسلم... وأن يتفاعل معها تفاعلاً لا تمّحي معه ذكراها على مر السنين. إذْ ليس غريباً أن تكون مدينة المحرّق، الحاضنة الكبرى للثقافة في مملكة البحرين، عاصمة للثقافة الإسلامية، فالمحرّق وعلى امتداد تاريخها تفاعلت فيها الثقافات فامتزج المحلي العربيّ الإسلاميّ بالثقافات المجاورة، وكذلك بالثقافة العالمية، وتعايشت فيها أنساق ثقافية، ولا تزال كذلك، في حوار لا يفقد المحرّق خصوصيّتها ولا يعدم حضور الآخر بمختلف تجلياته في احترام متبادل.
مشاركة :