القاهرة: «الخليج» يعد «سينيكا» (4 ق.م - 65 ق. م) من أشهر فلاسفة اليونان القدامى، رغم كونه ينتمي إلى تيار فلسفي ممتد زاخر بالأعلام طوال ثلاثة قرون سابقة عليه، هو التيار الرواقي، ذلك التيار الذي أسسه زينون تحت اسم «أهل الرواق»، حوالي عام 307 ق.م، وعادة ما يقسم المؤرخون فلاسفة هذا التيار أو هذه المدرسة إلى ثلاثة عصور: العصر القديم أو الرواقية القديمة التي تمتد في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وكان أهم أعلامها ثلاثة هم زينون المؤسس وكليانتس وخريسبوس، الذي يعد المؤسس الثاني للمدرسة.أما الرواقية الوسطى، و التي تمتد في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد فأهم أعلامها بنايتيوس وبؤسيوس وبوسيدونيوس، وآخرهم اشتهر بموسوعيته لدرجة أن قارن بعض المؤرخين بينه وبين أرسطو في غزارة الإنتاج الفكري وتنوعه، وقد نجحت الرواقية في هذا العصر في التوفيق بين تعاليم الرواقية القديمة وتعاليم كل من أفلاطون وأرسطو، مما اجتذب إليها الكثيرين ممن تتلمذوا على الأكاديمية، أي المدرسة الأفلاطونية، وهي المدرسة الأرسطية، ثم جاء عصر الرواقية المتأخرة أو الحديثة أو الرومانية، نظراً لأن السيادة السياسية والعسكرية وكذا السيادة الفكرية قد انتقلت إلى روما في هذا الوقت، وامتد هذا العهد المتأخر للرواقية عدة قرون منذ القرن الأول الميلادي، وإن كان أعظم فلاسفتها وهم سينيكا وأبكتيتوس وماركوس أوريليوس قد عاشوا فيما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، حيث توفي آخرهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس عام 180 ميلادية.في هذا الكتاب الذي أصدرته دار آفاق للنشر والتوزيع لسينيكا وعنوانه «عن الإحسان» ترجمة د. حمادة أحمد علي وتقديم د. مصطفى النشار، يتضح أن سينيكا هو الزعيم المؤسس للرواقية المتأخرة بكل ما تميزت به من اتجاه واضح نحو التركيز على نوع مما يمكن أن نطلق عليه منذ هذا التاريخ حتى الآن الفلسفة التطبيقية، خاصة في مجال الأخلاق حيث قدم سينيكا قولا وفعلا نوعا من الأخلاق العملية التي لا ينفصل فيها القول عن الفعل، مازجا بين قوة الفكر الأخلاقي النظري وفق ذلك النموذج الأفلاطوني المثالي، وبين قوة الإرادة القادرة على أن تفعل ما تؤمن به، أياً كانت النتائج وفق ذلك النموذج السقراطي الفذ الذي ضرب أروع الأمثلة على قوة الاحتمال وتحمل نتائج ما يؤمن به، حتى لو كان ذلك هو الموت.في مؤلفات سينيكا وحياته ما يؤكد كل ذلك فهو فيلسوف الأخلاق التطبيقية بامتياز، حيث كان بحثه عن سعادة الإنسان بحثا ممعنا فيما هو ممكن، باعتبار أن الإنسان نفس وبدن، وباعتبار أن توجيه العقل يرتبط بسلوك زاهد في الكثير من المطالب المادية التي لا ضرورة لها في حياة، يريد الإنسان الواعي فيها أن يتوافق مع الطبيعة ويعيش محبا لها ولأخيه الإنسان دون افتعال أو تعالٍ، ولعل أهم مؤلفاته التي عبرت عن روح سينيكا وتعاليمه هذه الرسالة «عن الإحسان» فقد اختار سينيكا أن يجعل من الحديث عن الإحسان دلالة على روعة الأخلاق التطبيقية، ومعبرا عن قدرة الإنسان الفاضل على العطاء بسخاء دون انتظار النتائج، حيث يجد الإنسان السخي المحسن السعادة الحقيقية في هذه القدرة على العطاء، قل ما أعطاه أو كثر، سواء استطاع من أحسن إليه رد هذا الإحسان أو لم يستطع.لقد تساءل سينيكا عن فضيلة الإحسان وكانت إجابته إنها فعل يبنى على النية الحسنة، وهو يدخل السرور ويؤدي إليه، ويقدم طوعا لفعل ما ينبغي، وليس موضوعه ما فعلته أو منحته، بل الطريقة التي فعلت بها أو منحت بها، أي نية المعطي.وحتى يدفع سينيكا البشر لهذه الفضيلة وهي فضيلة الإحسان يقول لهم إن السعادة التي ينشدونها في كل ما يفعلون: «ليست السعادة التي يستحقها البشر والإنسان الحق في حشو الجسد، ولا متاعه، ولا حفز الشهوات التي يسلم حين يهجرها بسكينة، ويتحرر من نوازعها»، إن السعادة في نظره ليست في الإفراط في هذه اللذات الجسدية الآنية، بل هي في التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الحياة الإنسانية العاقلة، وذلك هو ما يطلق عليه سينيكا السعادة المعتدلة.
مشاركة :