كنت، ولا زلت أؤمن بأن التجربة الديموقراطية البريطانية هي النموذج الأعرق في هذا العالم، وليست الولايات المتحدة الأميركية كما يروج لها الإعلام العالمي.. هكذا انتابني الشعور مجدداً عندما وطئت قدماي مبنى البرلمان البريطاني، يوم الأربعاء الماضي.. واستنشقت عندئذ عبق ديموقراطية عجيبة عمرها نحو 700 سنة! شكراً للطفك ودعوتك للصحافة العربية لنقل تجربتكم الى قرائنا: هكذا قلت للورد دافيد غودارد، الذي استقبلني بزهو أصحاب الدماء الزرقاء، وسرعان ما انطفأ زهوه أمام إحدى موظفات الاستقبال التي قالت بصوت يشبه التوبيخ: هل يعلم ضيفك أن «الموبايل» ممنوع هنا؟ فأومأ إلي مبتسماً: إنها ضريبة الديموقراطية.. أدخله في جيبك! دخلت إلى قاعة البرلمان، وجلست على المقاعد المخصصة للصحافيين والضيوف، فسألت اللورد، عن مدة استجواب رئيسة الوزراء؟ نصف ساعة! ثم أردف قائلاً: إنها عادة أسبوعية تتكرر كل يوم أربعاء.. وتطلق عليه المعارضة: يوم الشواء! كان كل سؤال يستغرق نحو نصف دقيقة لكل نائب مستجوب: سؤال مختصر، قوي، عميق.. وأحياناً خبيث! وقد تجاوز عدد المستجوبين العشرين نائباً.. تيريزا ماي..؟ كانت قوية جداً، حازمة، تتمتع بـ«كاريزما» طاغية، وحضور ذهني لا يصدق، إنها تعرف كل شيء.. لدرجة أنني استشعرت أحيانا أن معظم تلك الاسئلة كانت مفبركة، ومعدة مسبقاً.. نبرة صوتها، حركات يدها، نظراتها، كانت كفيلة لدحر الشكوك، حتى ان أجوبتها كانت بعضها «ملغومة» لضرب خصومها في حزب العمال، وإرباكهم. كانت عيناي تجوبان قاعة البرلمان، وتجريان مقارنات سريعة مع برلماننا هنا.. الصخب كان عالياً جداً، أشد صخبا من جماعتنا هنا.. على الجانب الأيسر، وقعت عيناي على النائب كينيث كلارك، ثاني أكبر النواب سناً، وقد كان غارقاً بالنوم وسط حالة الفوضى التي عمّت القاعة: هل تذكرت أحداً هنا؟ كان النفس الاقتصادي طاغياً على جميع أسئلة النواب المستجوبين، قبل أن يخترق أحد النواب الأجواء بسؤاله عن «حُفر» الشوارع التي أصابت بعض السيارات بأعطال متنوعة! إنهم يشطحون مثلنا.. أحياناً! قبل أن يشرع رئيس البرلمان جون بيركاو برفع جلسة الاستجواب بأسلوبه الكاريكاتوري المرح، لا أعرف لماذا استذكرت فجأة النائب د. وليد الطبطبائي، فسألت اللورد عن مكان جلوس الوزراء، فأشار إلى الصفوف الأمامية.. ما المغزى؟! فقال لي ان نواب حزب «العمال»، يجلسون على الضفة الأخرى من الصفوف الأمامية أيضا، حتى يكون الحوار أسهل! إذاً كان «بومساعد» محقاً! ما الذي تلخص لي في هذا الاستجواب؟ لماذا رأيت تيريزا ماي «وحشاً» كاسراً تبتلع مستجوبيها كلما تقدموا نحوها؟! بل إنها كانت تسخر منهم في معظم أجوبتها؟ لماذا على الوزير في الكويت أن يتجرع «البهدلة»، ولا ينام مليون ليلة قبل استجوابه؟ كيف خرجت لنا «بدعة» الجلسة السرية؟ السبب، وبكل بساطة أيها السيدات والسادة، أننا نعيش تجربة الهرم المقلوب في ديموقراطيتنا الحديثة.. رئيس الوزراء هنا لا يملك الأغلبية، والغطاء النيابي ليس إلا فضفاضا ينكشف عند أي ضغط نيابي أو شعبي.. ومعظم نواب مجلس الأمة الكويتي ليسوا سوى أفراد لا يتفقون على أهداف محددة.. والأحزاب في الكويت لا تزال مجرمة، والأجواء السياسية اليوم غير ملائمة لاستقبالها.. والحكومة المنتخبة ليست إلا جحيماً، تماماً كما رأينا السلوك الإقصائي لـ«أغلبية» مجلس 2012 المشؤوم.. لكنني ما زلت أؤمن أننا في الطريق الصحيح، وكما يعتقد اللورد دافيد غودارد أيضا.. لكن للوقت أحكامه، فلبريطانيا تجربة ديموقراطية عريقة عمرها نحو 700 عام، وحقوق المرأة السياسية أقرت لديهم في عام 1918، عندما كانت الكويت صحراء قاحلة.. لذلك، أظن أن ديموقراطيتنا تسير في الاتجاه الصحيح، وربما ستسابق زمنها لو أقر قانون الانتخابات بنظام «القوائم النسبية»، الذي يعمل عليه شباب المجلس الحالي، وعندئذ ستتنظم أمور جمة في مجلس الأمة.. وسيحمل وقتها صبغة سياسية محددة يحددها الناخبون.. والأهم، أنه سيخلق خريطة طريق لإقرار قانون الأحزاب مستقبلا، وربما مشروع الحكومة المنتخبة، بقواعد سياسية وزمنية تستند إلى الواقع.عبدالله غازي المضف
مشاركة :